ترامب على خطا أسلافه
لعل النتيجة الأهم التي تمخضت عنها قمة هلسنكي بين الرئيسين بوتين-ترامب هي أن النظام الدولي الجديد مازال بعيداً عن التشكّل، وأن ملامحه هي أبعد ما تكون على التوقّع والتخمين. وليس ذلك لأن الرئيسين خرجا متفقين أو مختلفين، وليس لأن هناك قوة ثالثة، أو رابعة، تنافسهما على الزعامة العالمية، التي يبدو أنهما باتا يمحضانها مضموناً مختلفاً عمّا كان عليه الحال خلال فترة الحرب الباردة أو القطبية الأحادية، وليس أيضاً لأن كلاً منهما حريص على التعريف بالآخر كـ “شريك” وليس كـ “منافس” أو “خصم” استراتيجي، مع الإشارة إلى أنهما القوتان الوحيدتان اللتان لاتزالان تعولان، أو تملكان القدرة، على استخدام القوة في العلاقات الدولية لتثبيت مصالحهما القومية، ولكن بالضبط لأن الرئيس ترامب غير قادر على تنفيذ وعوده وتعهداته لاعتبارات تخص وضعه الداخلي، ومدى قدرته على استخدام صلاحياته للدفع بمواقفه وسياساته الخارجية، أو “رؤيته” لعالم مابعد أمريكا أولاً”، على الأخص.
إذ، وفجأة، فجّرت القمة، ببروتوكولاتها وحيثياتها، وبالاجتماع المغلق الذي استمر لساعتين، ومن ثم بالمؤتمر الصحفي، سجالات غير مسبوقة طالت الخيارات والاستراتيجيات الأمريكية تجاه العلاقة مع روسيا، و”روسيا بوتين” بالتحديد، ليتحوّل الأمر إلى اصطفافات غير معهودة، وصراع لا سابق له بين كبريات مؤسسات صناعة القرار الأمريكي. بدا ترامب، اليميني والمحافظ والقومي والشعبوي والإنجيلي والعنصري – رغم ذلك – إصلاحياً منفتحاً في مواجهة جمهرة من الصقور والمتطرفين والمتعصبين المستعدين لقتاله حتى من داخل حزبه الجمهوري، ليدخل البيت الأبيض سريعاً في نفق مظلم، ولا نهاية له، من التشكيك بالأهلية ومن احتمالات المضي بإجراءات الإقالة على الفور، أو التعطيل على الأقل. ولكن الواضح، وما يمكن استنتاجه على الفور، في خضم هذه الحرب الأهلية الصامتة، أن ترامب ليس وحده الضعيف، وأن أمريكا، القوة العظمى الوحيدة، تنزلق، بدورها، وببطء، في مسار ثابت من التقهقر والانحدار والتآكل التدريجي.
لن يكون ترامب طارئاً، أو انحرافاً تاريخياً، سرعان ما ينتهي بالعودة إلى التقاليد الهاربة للعظمة والجبروت الأمريكي، فهو، ورغم الوقاحة وغرابة الأطوار والعناد الذي يلازمه، أعجز من أن يتبنّى سياسات ومسارات خاصة ومتفرّدة في مرحلة من الشعور الهيستيري بالتدهور والانحطاط و”الروسوفوبيا”، وهي سياقات سايكولوجية وسوسيولوجية تزجّ بأمريكا كلها في معمعة من الأسئلة والاستفهامات والألغاز التي لن تجد لها من جواب إلا في الحقيقة الماثلة، القاهرة، بأن العالم يتغيّر، وقد تغيّر من قبل، وأن التقاط “اللحظة الترامبية” كفرصة أخيرة للإصلاح – على ما فيها من صعود وهبوط، وتشنّج وتوتير- قد يكون الخيار الأفضل للحفاظ على مجد “الأمة الأمريكية”، التي تعيش – راهناً – طوراً من أطوار التهاوي والأفول، بدلاً من معاندة الحقائق الاستراتيجية الجديدة التي تشق طريقها إلى الأمام غير منتظرة موافقة ترامب، ولا حتى موافقة مناوئيه. ففي سورية يندحر الإرهاب، سواء دعمته وكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون ووكالة المعونة الأمريكية، أم لم تدعمه، وسواء قرّرت واشنطن دعم الانفصاليين، أو دعاة اللامركزية، أو الإدارة الذاتية، أم “داعش”، على أمل التقسيم أو إطالة أمد الفوضى والحرب، فالوطن السوري باق، وسيبقى، حقيقة حيّة خالدة غير خاضعة للمراجعة أو إعادة النظر أو التأويل؛ والسنوات السبع الماضية لن تكون إلا مجرد فاصل عابر سوف تكون مهمته وحسب إعادة تعميد الوطنية السورية باللهب والدم الزكي.
لقد مضى بوش في نهاية المطاف إلى اتخاذ قرار الانسحاب من العراق، كما انتهى أوباما إلى اتخاذ قرار الخروج من أفغانستان؛ وعليه، فكل ما يمكن لترامب فعله أن يقر بالحقائق على الأرض، وأن يسحب الدعم عن المجموعات الإرهابية المسلّحة وغير المسلحة، وأن يقرّر الانسحاب الفوري من أي موقع “تشغله” قواته فوق الأرض السورية دون موافقة رسمية من الحكومة السورية، وتلك مصلحة قومية أمريكية قبل أن تكون حصيلة اتفاق ينتظر مقابلاً ما، مهما كان نوعه.
الانسحاب الأمريكي تحصيل تحصيل، وهو يندرج كامتداد تلقائي لاستراتيجية الانسحابات من العراق وأفغانستان، والتي قد تتوج بالانكفاء عن الشرق الأوسط كله. وترامب لا يقدم جديداً سوى متابعة نهج أسلافه فيما ترفض النخبة الأمريكية الحاكمة – ولن نقول “الدولة العميقة”، وترامب جزء منها – أي مراجعة سياسية جدية ومسؤولة، بل وترفض التحلي بأدنى قدر من شجاعة الاعتراف. ولربما كان هناك من سيحاول طرد الرئيس الخامس والأربعين من فردوسه الرئاسي، ولربما سيكون هناك من سيحمله مسؤولية الفشل الأمريكي، ولكن الحقيقة المؤكدة – ابتداءً من اليوم – هي أن أمريكا فاشلة، وأن الفشل ينسحب على الموالين والمعارضين في نفس الوقت!
بسام هاشم