يا دجلة الخير (3)
د. نضال الصالح
قبل مغادرة خزامى وأسرتها الشام بيومين تمنّى سامي عليّ أن أكتب رسالة باسمه إليها، رسالة يسلّمها لها في لقائهما الأخير، ويبدي استعداده للموت من أجلها إن هي استجابت لتوسله إليها في أن تبقى في الشام، وتوافق على الزواج منه على الرغم من إرادة أبيها الذي رفض طلبه. وكانت أول مرة لا أستعيد فيها لازمتي له: “اكتبْ ما تحكيه عنها فقط، وستجدها شهرزادك يا شهريار زمانك”، بل ما إنْ وصلت إلى البيت، حتى هُرعت إلى طاولتي، وحاولت أن أسفح على الورق ما كان يصخب في روحي من تسبيح باسم الخلّاق العظيم، غير أنني، على النقيض ممّا كان يحدث لي عندما أودّ الكتابة عن شيء، أيّ شيء ولاسيما ما يتعلّق بأمر القلب، وجدت نفسي وأنا أمضي ليلة بتمامها أكتب وأمحو، ثم أمحو وأكتب، فلا أتجاوز سطراً، أو بعض سطر، حتى خُيّل إليّ أنني لستُ أنا، أنا الذي تتثنى اللغة بين يديه، ثمّ تتجلّى أبهى وأحلى من أحلى حِلية من الذهب.
أرتِجَ عليّ، وفقدتُ نعمة ما كنتُ عليه عندما كنت أشاء الكتابة. أجل أشاء لأنني أعرف سعة مخزوني من اللغة ومستودع ثقافتي، ولأنّ أصابعي لم تخذلني يوماً في رقصها فوق بياض الورق، أو فوق لوحة المفاتيح في جهاز الكومبيوتر. أمّا الآن، فيا لهزيمتي أمام… ليس بياض الورق أو لوحة المفاتيح، بل أمام نفسي التي أتت خزامى عليها وأنا أتطلع إلى وجهها الفتنة، بل أمعن النظر في نهر الغوايات، الذي يفيض منه وفيه، ثمّ تجعلني رماداً فوق رماد.
دفعت بورقة بيضاء إلى سامي، ولم يكد يفتحها، حتى اضطرب جمرٌ في وجهه، وقال: “أين الرسالة؟”، قلت: “هذه”، قال: “عليّ يا أصمعي؟”، وكان يحلو له أن يناديني بذلك، وقبل أن يغادر ما كان يزدحم في فمي وقلبي من الكلام: “بل عليّ أنا يا سامي، عليّ أنا الذي أحسدك على قلب خزامى، أنا الذي سقطت صريع عباءتها، وما تحت العباءة من القدّ الأهيف، وغوايات الفتنة في تفاصيل وجهها، ولقد كنت أحسب، وأنا أمعن النظر إليها أوّل مرة، أنّ أمامي أنثى تغادر أساطير بابل وآكاد وسومر وآشور، ثمّ تبزغ بكامل مشمشها كما وصف محمود درويش امرأة فتنته ذات نصّ”.
قبل أن يغادر ما كان يزدحم في حنجرتي وقلبي من الكلام أسرع سامي إلى القول: “هيه أصمعيّ نحن هنا، أين الرسالة يا شاعر؟”، فرددت: “بين يديك”، ولم أكد أنتهي من القول، حتى كاد يهوي بقبضته فوق وجهي وثمة جمر يزداد اضطراباً في وجنتيه، لكنه أوقف ذراعه في الهواء، وقال: “بربّك هل هذا وقت المزاح؟ ستصل خزامى بعد قليل”، قلت: “اسمع يا سامي، دع خزامى تمضي وشأنها يا صديقي”، فقال: “لا بد أنك جننت”، قلت: “أجل يا سامي، أجل”، وقبل أن أقول: “ولو أنك تعرف بمن جُننت يا سامي! لو”، مضى بكفّ يمينه إلى جبهتي، ثم لم يكد يتحسسها، حتى انفتحت عيناه على آخرهما، وأمسكني من يدي، وقال وعيناه تلمعان ببريق ضحكة ماكرة: “لا بدّ لك يا أصمعيّ من أقرب طبيب، أو أقرب مشفى، حرارتك تكاد تبلغ درجة الغليان”… (يتبع).