ثقافةصحيفة البعث

بين لغتين

عندما تساءل ميشيل فوكو في مؤلفه “حفريات المعرفة”، عند أية نقطة يبدأ نصّ كاتب ما وأين ينتهي؟ وهل بطاقة بريدية أو قائمة جرد ثياب في المصبغة بخط “نيتشه”، مثلاً تشكّل حلقة من نصه المتكامل أم لا؟ وكيف بوسع القارئ أن يفهم شخصية من المفترض أن تتضمنها الحروف على الورق؟ كان في الحقيقة يعيد وضع أغلب المشتغلين في الحقل الإبداعي الأدبي أمام إشكالية معرفية من العيار الثقيل، تتمثّل في النسبية التي تحكم الكيفية الإدراكية لفهم نص ما، لا سمة محددة تميزه عن غيره من النصوص، بعد أن قوضت نظريات على شاكلة النص المفتوح والكتابة فوق الكتابة وموت المؤلف، العديد من الأفكار الراسخة المتعلقة بتقنيات الكتابة الإبداعية، ومنها فصل اللغة عن استجلاء الأفكار المسبقة التي قدمتها، وعلاقة الكلمة بالمعنى، ومثالية الحدود التي تفصل بين الأجناس الأدبية، بحيث لم يعد بمقدور الرواية أن تفلت من قبضة الشعر دون أن تخسر شيئاً قيماً من قيمتها، ولا للقصة القصيرة أن تخلع ثوب النثر الشعري، إلا أن تلك الإشكالية التي تأتت من غلبة مفهوم النص المفتوح، تنطلق بشكل رئيسي من اللغة ذاتها باعتبارها الحامل الحقيقي لأي عمل أدبي، وعندما نأتي على ذكر اللغة، فإننا نذهب بما نذهب إليه نحو العلاقة القائمة بين اللفظ والمعنى، أو بين الكلمة وإيحائها، خصوصاً عندما يوجد وبوفرة في اللغة الواحدة عدد لا يحصى من المفردات التي تتساوق بالشكل، وتفارق بالمعنى، أو بأكثر من معنى ومعنى آخر أيضاً.

الموضوع الذي أفرد له المفكر “عبد القادر الجرجاني” حيزاً واسعاً في كتابيه “أسرار البلاغة، و”دلائل الإعجاز”، حيث يتطرق فيهما إلى جملة من المسائل غاية في الأهمية في بنيوية اللغة العربية.

صاحب أسرار البلاغة بنى نظريته على وحدة اللغة العربية الفصحى التي كان يفكر بها، دون أن يقع في المشكلة التي وقع فيها غالبية المشتغلين في الأدب في الفترة الممتدة منذ أواسط العصر العباسي وحتى الآن، وهي أزمة لها طابع فصامي بالمعنى التشريحي للكلمة، ويمكن تسميتها وبتجرد “الفصام اللغوي”.

تاريخياً اللغة العربية الفصحى هي في الأساس لهجة قبيلة قريش، وقد تعايشت هذه اللهجة مع سبع لهجات أخرى في العصر ذاته كانت موجودة في عدة مدن موزعة في أنحاء الجزيرة العربية، لكن الميزة التاريخية لمكة بوجود بيت الله العتيق فيها الذي كان محطة لحجاج وثنيين قبل الإسلام، كما أنها كانت محطة ترانزيت القوافل التجارية القادمة من اليمن باتجاه بلاد الشام، جعلها أكثر المحطات اكتظاظاً بالقوافل التجارية التي كانت تنشد التجارة والحج الجاهلي معاً.

إلا أن ظهور دين الإسلام على يد النبي القرشي “محمد”، ونزول القرآن الكريم بلهجة أهل قريش، جعلها اللغة السائدة في منطقة الجزيرة العربية قبل زمن الفتوحات الإسلامية البعيدة، ومن ثم لغة كل المدن التي دخلت في الإسلام زمن الفتوحات الإسلامية، ليأتي جمع القرآن بعد أن كان متناثراً في ألباب حفظة الوحي، بمثابة الضربة الحاسمة في تفوق اللغة العربية الفصحى على باقي اللغات الأخرى، والتي مازال البعض منها موجوداً حتى الآن كالغساسنة في العراق، والمناذرة في شمال سورية.

الفتوحات الإسلامية، جلبت وبشكل عفوي الملاقحة بين ثقافات مختلفة، ما أدى لدخول مفردات جديدة إلى اللغة العربية لم تكن موجودة فيها، خصوصاً في العصر العباسي الذي شهد انفتاحاً واسعاً على ثقافات مختلفة وبعيدة في الزمان والمكان والعمق، وكان أهمها يأتي عن طريق تطور حركات الترجمة من اليونانية إلى العربية للعديد من كتب الفلسفة والأدب والعلوم، ونشوء علم الكلام الذي أباح الخوض فيما كان محرّماً الخوض فيه كتفسير بعض الآيات القرآنية، أيضاً ساهم شعراء ذاك العصر في ابتكار علائق لغوية جديدة خرجت عن السائد في شكلها ومضمونها، إن كان بالصور الشعرية التي اشتهرت بها قصائدهم وما تمتلكه من قدرة على خلخلة بنية المفردة بإعطائها إيحاء مختلفاً عما سبق وارتدته، أو بالأغراض أو حتى بالموضوعات.

غيّرت تلك الملاقحة الثقافية والتوجه نحو إحياء الكتب القديمة بترجمتها والاطلاع على أفكار ومفاهيم أخرى، من لهجة قريش، حيث دخلت عليها العديد من المفردات الجديدة التي حلت مكان مفردات اندثرت نهائياً حتى في المعاجم الجديدة، ثم وبتقدم مضطرب بدأت تظهر ملامح لغة جدية، أو لهجة جديدة، لا قواعد لغوية تحدها، ولا معجم يستطيع احتواء مفرداتها المتزايدة باستمرار، وهكذا بدأت اللغة المحكية بالظهور رويداً رويداً كلغة منافسة قوية للفصحى.

اللغة المحكية هي لغة الحياة اليومية، لغة العلاقات العائلية والصداقات، لغة العشاق والمحبين، لغة التجار ولغة السوق، باختصار هي أي المحكية اللغة التي نحيا بها خارج الكتب، إلا أن فصاماً لغوياً أصاب وسيصيب أغلب الممتلكين للغتين، فنحن العرب نمتاز بأننا نمتلك لغتين: اللغة الفصحى التي نقرؤها في الكتب الدراسية، واللغة المحكية التي نحيا بها.

تبدأ علاقة الإنسان باللغة في مرحلة الطفولة، فهو يكتسب اللغة العربية الفصحى من المدرسة وآلياتها التعليمية، وممارسته كتابتها تطبيقاً لما تعلمه، كما يكتسبها أيضاً عن طريق السمع، سواء في المسلسلات الكرتونية المترجمة، “ربطه بينها وبين الصور التي يحبها”، ومن خلال أيضاً البرامج التعليمية والتاريخية والعلمية الناطقة بلغة الضاد، لكنه في المقابل يكتسب اللغة المحكية في بيته، من ذويه وأقرانه في اللعب، وهي اللغة التي سيستخدمها طوال حياته في علاقاته مع الآخرين، واحتكاكه بهم، وهنا ستظهر الفصامية التي جئنا على ذكرها سابقاً، فالطالب سيجد صعوبة في تعلّم لغته الأصلية كونها لغة المنهج الدراسي التي لا يستسيغها في مواد، ويستسيغها في أخرى، لكنه بالمقابل يجد نفسه في المحكية أكثر انطلاقاً في التعبير عما يجول في خاطره، لذا سنجد أن أغلب طلاب العلم يخطئون عندما يبدؤون الحديث باللغة الفصحى، سينصبون الفاعل، ويجرون الخبر، والموصوف لن يتبع بتشكيله لديهم للصفة، وغيرها من الأخطاء النحوية التي لم تعد تلتزم القواعد العربية في الخطاب، وإذا ما اعتبرنا أن لكل منطقة عربية لهجتها المحكية الخاصة بها، فلسوف نكون أمام مشكلة عدم التفاهم أثناء الحديث بين الجزائريين مثلاً، وأهل البادية الخليجية، وهذا بدوره سينسحب على معظم اللهجات العامية العربية، اللهم ماعدا اللهجة المصرية والسورية التي سوّقتها وبشدة الأعمال الدرامية التي كان لكل من سورية ومصر قصب السبق فيها على باقي الدول العربية.

تمّام علي بركات