الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الاستعمار والاحتلال

عبد الكريم النّاعم

ثمّة “مصطلحات” تحتاج للمراجعة، والتّدقيق، وإعادة النّظر فيها، ومن أكثرها شُيوعا مفردة “الاستعمار”، التي تعني “الاحتلال”، بكلّ ما للكلمة من دلالات وأبعاد، فقد عمد الغرب النّهّاب الرّبوي، مع بداية خروج أوروربا لاحتلال العديد من البلدان في أفريقيا وآسيا، عمد إلى كلمة “استعمار” لتزيين وحشيّته، مُتوهّما أنّ دلالة المفردة اللّغويّة، ربّما تستر تلك الأنياب الطامعة التي لا تشبع من لحم الشعوب المُستَضعَفة، ولم تُغطّ تلك المفردة شيئا من سوءات ذلك الجشع.
مفردة “استعمر” ظُلمتْ لأنّها من جذر “عمَّر”، أي بنى وأشاد، جاء في القرآن الكريم: “هُوَ الّذي أَنْشَأَكُمْ من الأرضِ واسْتَعْمَرَكمْ فيها”، أي جعل أمانة إعمار الأرض، والمحافظة عليها، مُناطة برقبة الإنسان المُسْتَخلَف فيها.
أخذت القوى الغربيّة الطامعة باحتلال أراضي الآخرين هذه المفردة، لتتلطّى وراءها، كما تلطّتْ وراء مفردة “الانتداب” وهي أكثر صدقا من الأولى، وزعمتْ أنّ تلك الشعوب غير مؤهَّلَة لحكم نفسها بنفسها، فجاءتْ هي.. “لاستعمار” تلك الأراضي.
تُرى ما الذي “عمّره” المحتلّون في البلدان التي بسطوا سيطرتهم عليها؟.
إنّ كلّ ما فعلوه من شقّ للطرقات، ومن سكك حديد، ومن محطّات كهرباء، وأسلاك هواتف، كان مسخَّرا لإتمام عمليّة النّهب، وليس لخدمة أهل البلاد.
لقد حكم الفرنسيون الجزائر مئة وثلاثين عاما، فماذا فعلوا في الجزائر؟!
أفْقروها، وفرضوا لغتهم عليها، وما من محتلّ خرج من بلاد احتلّها إلاّ مطرودا بنضال أهلها.
هنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ للاحتلال نوعين، نوع كالذي ذكرناه، ونوع آخر وهو الاحتلال الاستيطانيّ، وهو إبادة شعب البلاد، والحلول محلّه كما فعل الأمريكيّون في الهنود الحمر، ونوع آخر لا يقلّ عن الصّنف الأوّل، إلاّ أنّه لم يتمكّن من الإبادة، كما جرى في فلسطين، بفعل مقاومة أهلها والجماهير المُساندة لها، ولعلّه أطول نضال في التاريخ مضى عليه قرابة سبعين عاما، ورغم التّشريد، والإيذاء، والتجويع، والملاحقة اليوميّة، لم يتمكّن من تحقيق مُبتغاه، وها هو الآن بدعم أمريكي يسعى لفرض صفقة القرن، مستعينا بأعراب الخليج لتصفية القضيّة الفلسطينيّة.
مصطلح آخر مُلحق بما ذكرناه هو استعمال المؤرّخين لمفردة “الفتح” العثماني، ولا يستخدمها إلاّ مُضلَّل، أو جاهل بأخطارها، فالعثمانيّون “احتلّوا” البلاد العربيّة، ودمّروا ثقافتها، وجوّعوا أهلها، وصادروا تقدّمهم بما ليس له مثيل عبر أربعمئة سنة، فأيّ فتح هذا؟!
إنّ هذا مخالف لأعراف الجيرة الحسنة، والاشتراك في الدّين، وفي الأخوّة الإنسانيّة، تُرى هل يكفي الغازي المحتلّ أن يكون معتنِقا دين أهل البلاد ليسوَّغ له كلّ ذلك التسويغ؟!
عسى أن يتنبّه الكتّاب، والمؤرّخون، وواضعو المناهج المدرسيّة إلى دقّة تلك المصطلحات، فلا يعمدون إلاّ إلى ما يُعبِّر عن دلالة وطنيّة قوميّة إنسانيّة بعيدا عن تلك الحقول المليئة بالألغام التي زُرعت خلال أزمنة موغلة..
aaalnaem@gmail.com