أوروبا القلقة.. وخيارات الدفاع عن النفس
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
يعتبر دونالد ترامب أول رئيس أمريكي يعتقد أن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة يقوض مصالح الولايات المتحدة، على الرغم من أن النظام الحالي يفيد الولايات المتحدة بشكل لا لبس فيه، إلا أن ترامب مقتنع بأن هذا النظام الدولي يفيد الصين أكثر، وخوفاً من صعود الصين كقطب عالمي آخر، أطلق ترامب مشروع تدمير ممنهج للنظام القديم، وإقامة نظام جديد أكثر ملاءمة لأمريكا.
يريد ترامب السعي وراء هذا الهدف عن طريق التعامل مع الدول بشكل ثنائي، وبالتالي يريد أن يتفاوض دائماً من موقع قوة، لقد أبدى ازدراء خاصاً للحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، اتهمهم بالانتفاع المجاني، الذين كانوا يقفون في طريق أمريكا، وعلى ذلك، لا يمكن لترامب أن يقف إلى جانب المنظمات متعددة الأطراف التي تقوي الدول الأصغر والأضعف في مواجهة الولايات المتحدة.
تقويض المؤسسات الدولية
نظراً لاستراتيجيته المسماة “أمريكا أولاً”، فقد أمضى ترامب رئاسته بتقويض مؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية، والتخلي عن الاتفاقيات متعددة الأطراف مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ، والاتفاق النووي الإيراني، واتفاق باريس للمناخ، ولأن ترامب قد تمكن من اختلاق معارك جديدة بسرعة كبيرة، فقد سعت دول أخرى لاستيعابه، ناهيك عن تشكيل تحالفات فعالة ضده.
في الأسابيع الأخيرة، وضع ترامب نصب عينيه الاتحاد الأوروبي، وكما أشار ايفان كراستيف من معهد العلوم الإنسانية مؤخراً، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه الآن إمكانية أن يصبح “حارساً على وضع لم يعد قائماً”، وباعتباره خبيراً أطلسياً، فإنه من المؤلم الاعتراف بأنه على حق، وقد حان الوقت لكي تعيد أوروبا تحديد مصالحها وتطوير استراتيجية جديدة للدفاع عنها.
أولاً وقبل كل شيء، يتعين على الأوروبيين البدء في التفكير بأنفسهم بدلاً من إحالة الأمر إلى مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، ومن الواضح أن للاتحاد الأوروبي مصلحة في الحفاظ على النظام القائم على القوانين، والذي يأمل ترامب بهدم ، كما أن مصالحه فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وخاصة تركيا، وحتى روسيا، قد تباينت بشكل متزايد عن مصالح الولايات المتحدة.
يجب على الأوروبيين بالطبع محاولة العمل مع الولايات المتحدة كلما أمكن ذلك، ولكن ليس إن كان هذا يعني إخضاع مصالحهم الخاصة للمصلحة الأمريكية، ويجب على الأوروبيين أيضاً بدء الاستثمار في الاستقلال العسكري والاقتصادي، وليس الانفصال عن الولايات المتحدة، ولكن التحوّط ضد تخلي أمريكا عن التزاماتها، ولحسن الحظ، هناك بالفعل نقاش جدي في العواصم الأوروبية حول زيادة الإنفاق الدفاعي الوطني إلى 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويمثّل كل من إطار اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم للاتحاد الأوروبي في الأمن والدفاع بيسكو (PESCO)، ومبادرة التدخل الأوروبية الجديدة للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون (EI2)، خطوات في هذا الاتجاه، والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان يمكن تمديد قوة فرنسا العسكرية “قوة عسكرية ونووية ضاربة” لتوفير رادع موثوق به من قبل الاتحاد الأوروبي.
على الجبهة الاقتصادية، تواجه أوروبا معضلة في أن تضع قيمها مقابل مصالحها التجارية، وصف وزير الخارجية البلجيكي السابق مارك ايسكنز أوروبا بأنها “عملاق اقتصادي وقزم سياسي ودودة عسكرية”، لكن أوروبا أصبحت الآن مهددة بأن تصبح قزماً اقتصادياً أيضاً، وحقيقة أن الولايات المتحدة يمكن أن تهدد بفرض عقوبات على الشركات الأوروبية للقيام بأعمال تجارية مع إيران تبعث على القلق العميق، ورغم أن الاتحاد الأوروبي يدافع عن القانون الدولي، إلا أنه لايزال أسيراً لاستبداد نظام الدولار.
أوروبا بحاجة للنفوذ
وبالنظر إلى المستقبل، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى كسب المزيد من النفوذ للتعامل مع القوى العظمى الأخرى مثل الصين والولايات المتحدة، وإذا كان ترامب يريد أن يجعل العلاقات عبر الأطلسي أسيرة الصفقات، فإن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى أن يكون مستعداً للنظر في مختلف مجالات السياسة لعقد صفقات، لننظر في طلب وزارة الدفاع الأمريكية الأخير بأن ترسل المملكة المتحدة المزيد من القوات إلى أفغانستان، إذا اتخذ الاتحاد الأوروبي نهجاً قوياً، فلابد أن يرفض تقديم أية تعزيزات حتى تسقط الولايات المتحدة تهديداتها بفرض عقوبات ثانوية على الشركات الأوروبية.
علاوة على ذلك، تحتاج أوروبا إلى تطوير استراتيجية للتواصل السياسي مع الآخرين، ومن المفترض أن تكون مجموعة الدول السبع هي “قمرة” القيادة في الغرب، ولكن في قمتها الأخيرة التي جرت في كيبيك بدا أنها ليست سوى “دارة كهريائية ضعيفة”، فقد كان سلوك ترامب مفزعاً للغاية، لدرجة أن بعض كبار المسؤولين الأوروبيين أخذوا يتساءلون الآن عما إذا كان على حلفاء الولايات المتحدة أن يشكّلوا تحالفاً مستقلاً من القوى الوسطى، خشية أن يتم سحقهم بين صخرتي الصين الصاعدة وأمريكا المتدهورة، ففي عالم يقوم على الصفقات على نحو متزايد، قد تقدم مجموعة جديدة من الدول الست دفاعاً عن النظام القائم على القوانين.
ومع ذلك، يتساءل المرء إذا كان الاتحاد الأوروبي قادراً على تشكيل جبهة موحدة، ومع انقسام الكتلة إلى أجزاء سياسية مفرقة، أصبح من السهل على القوى الأخرى اتباع استراتيجية “فرق تسد”، وقد قيل إن هذا يشكّل استراتيجية لروسيا، وهي الآن استراتيجية تعتمدها الصين والولايات المتحدة، على سبيل المثال، في عام 2016، تمكنت الدول الأعضاء في جنوب وشرق الاتحاد الأوروبي التي تعتمد على الاستثمار الصيني من إسقاط بيان مشترك للاتحاد الأوروبي بشأن التحركات الإقليمية للصين في بحر الصين الجنوبي.
ترامب يزرع الانقسامات
وبالمثل، فإن ترامب يمتد بشكل متزايد إلى الدول الأعضاء في شرق وجنوب الاتحاد الأوروبي من أجل زرع الانقسامات داخل الكتلة، فعلى سبيل المثال، أوضح مسؤولو وزارة الخارجية الأمريكية لرومانيا أن الولايات المتحدة لن تضغط عليها بشأن انتهاكات سيادة القانون إذا ما انفصلت عن الاتحاد الأوروبي، ونقلت سفارتها في “إسرائيل” إلى القدس، ومع العلاقات المشحونة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ستكون إدارة ترامب أكثر إغراء لاتباع مثل هذه الأساليب.
من غير الواضح كيف يمكن أن يستجيب الاتحاد الأوروبي، حيث يمكن أن يفرض تكاليف باهظة على البلدان المتمردة على السياسة الأوروبية الخارجية، أو يمكنه أن يستثمر أكثر في مجال الأمن، وبذلك فإنه حتى البلدان الواقعة على الأطراف ستشعر وكأن لديها ما تخسره من خلال تقويض تماسك الاتحاد الأوروبي، ومقابل ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي نفسه أن يبرم اتفاقاً مع الدول الأعضاء، بحيث تصبح الأمور السياسية الداخلية أسهل مقابل التعاون في السياسة الخارجية.
أياً يكن ما يقرره، فإن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى رسم مسار جديد، وبدلاً من أن يُفاجأ من غضب ترامب وإثارة غضبه على الدوام، يجب على الأوروبيين تطوير سياستهم الخارجية الخاصة التي من خلالها يمكنهم مواجهة سلوك ترامب.