عبّرت عن شغفها وحبها للمنسوجات الشرقية هايكه فيبر.. سيدة ألمانية أسست مشغلاً للأعمال اليدوية في دمشق بالشراكة مع المرأة الريفية
“الشعب السوري يمتلك هيبة وثقة بالنفس، هذا ما ظهر أثناء الحرب، وعلاقتي بسورية روحانية، ولها خصوصية كبيرة لدي”، بهذه الكلمات عبّرت هايكه فيبر، السيدة الألمانية المقيمة في سورية منذ أكثر من ستة وثلاثين عاماً، عن مدى حبها للبلد، وكيف أنها آثرت البقاء في سورية أثناء فترة الحرب وعدم مغادرتها، ورغم سكنها في منطقة باب شرقي في دمشق التي كانت عرضة بشكل يومي للقذائف، فهي تعتبر بقاءها هنا نوعاً من الصمود.
عناة
بالتأكيد عندما قامت السيدة هايكه بتأسيس مشغل يهتم بكل ما يتعلق بالشرقيات كالمنسوجات، والعبايات، والتطريز، لم تكن لتتوقع عند اختيارها لهذا الاسم أنه سينطبق فيما بعد بكل ما يحمل من معان ومدلولات على السيدات السوريات اللواتي عملن معها، فهن فعلاً مثّلن الآلهة السورية المقاتلة التي تحمّلت كل الظروف الصعبة في هذه الحرب، وعناة تتبوأ في الميثولوجيا مكانة، أو الآلهة والمقاتلة التي لا يشق لها غبار، إضافة إلى أنها عندما بدأت العمل لم تعتقد أنها ستصل إلى هذه المرحلة من الدقة والحرفية، لدرجة أن كل جهدها أصبح منصباً لمتابعة العمل، والإصرار على الاستمرار به مهما تطلب الأمر من جهد وتعب، خاصة أن مشروع عناة الذي كان بمثابة مؤسسة غير حكومية أظهر الفسيفساء السورية التي تمثّل المجتمع السوري.
قيمة فنية
الاهتمام بما يسمى التطريز والخياطة ليس بالأمر الجديد بالتأكيد، ولكن أهمية مشروع عناة الذي أسسته السيدة هايكه في عام 1988 يأتي أولاً من القيمة الفنية الكبيرة لهذه الأعمال التي تُصنع بحرفية عالية، وتتسم بطابع العراقة كون الرسومات التي تقوم السيدات بتطريزها على الأقمشة لها خلفية تاريخية، ودلالات معينة تحمل فلسفة وثقافة، بمعنى أنها لا تُصنع بشكل عشوائي لمجرد التطريز فقط، فالتطريز على حد تعبيرها لغة اتصال بين الشعوب، لأن الرموز المستخدمة فيه تساعد على إيصال الرسائل المرجوة منه، وهي مفهومة من قبل كل من يراه، إضافة إلى كون المشروع اتسع ليصبح شركة لها اسمها ومكانتها لما لها من دور بتقديم صورة مشرقة عن المنسوجات والأعمال اليدوية، ليس فقط لسورية، وإنما نستطيع أن نقول لبلاد الشام ككل، فهو بمثابة بصمة وهوية لهذه المنطقة، والاهتمام بهذه الأعمال كان من منطلق حبها وشغفها بها.
الاهتمام بالمرأة الريفية
بدأ المشروع مع السيدات الفلسطينيات في منطقة التضامن، ثم أصبح الجيران يخبرون بعضهم حتى كبر العدد، أما بالنسبة لحلب فكان هناك مؤتمر لسيدات الأعمال، وكانت السيدة هايكه موجودة، فقامت بعض الفتيات من منطقة جبل الحص التابعة لحلب بدعوتها للذهاب إلى القرى هناك، والتعرف على المنطقة، وفعلاً لبّت الدعوة، وبعد أن رأت الحماس الكبير الموجود لدى الفتيات والسيدات هناك للعمل معها، قامت بعمل بحث عن التطريز السوري، ومن وقتها أصبح عدد اللواتي يعملن معها يزيد عن ستمئة سيدة وفتاة، كان العمل بالنسبة لهن فرصة عظيمة، خاصة أنهن كنا يقمن بمزاولته في منازلهن، فهي أعادت الحياة إلى تلك القرى، هكذا كانت السيدات العاملات معها يصفن وضعهن، لتتمكن السيدة هايكه آنذاك من توفير فرصة عمل لأكثر من ألف سيدة وفتاة تعملن بالتطريز، إضافة لما يقارب ثلاثين سيدة تقمن بأعمال الإدارة والتسويق، وغيرها من الأمور اللوجستية في كل من أرياف حلب، وادلب، والسويداء، ودمشق، وريفها، واستطاعت من خلال هذا المشروع أن تشارك بالكثير من عروض الأزياء المقامة حول العالم كالنمسا، وألمانيا، وانكلترا، والسويد، والدنمارك، وأمريكا، وكانت تلك العروض تحصد الكثير من الإعجاب، وتجذب العديد من السياح، لما لتلك الأعمال من قيمة فنية ووطنية كبيرة، وما يثير الإعجاب أن معظم ضيوف سورية من زوجات الدبلوماسيين والرؤساء، وهن رواد دائمون لمحلها عناة ذائع الصيت، بما فيهم ملكة اسبانيا التي كانت تحرص على شراء أجمل الألبسة الشرقية الموجودة.
إتقان الأعمال اليدوية
تتميز المرأة الريفية بإتقانها لعملها، وتمتعها بصبر كبير، خاصة في هذه الأعمال التي تتطلب الصبر والدقة، فهي مازالت تحتفظ بعلاقة مميزة بيديها، وربما هذا الفرق بينها وبين المرأة في المدن، واستطاعت السيدة هايكه أن تبني علاقة مميزة مع الفتيات في تلك القرى النائية، فعلى حد قولها، ومن تجربتها، تعتقد أن إمكانية تطوير العمل هنا أكبر منها في المدينة، وهذه الأعمال اليدوية قيمتها الأساسية من جودتها، فهي ثروة حقيقية لسورية، واصفة الوضع الحماسي الذي كانت الفتيات تشعرن به لمجرد إبداء إعجابها بإحدى القطع المصنوعة من قبلهن، والثقة العالية التي يولّدها العمل بأنفسهن، وربما مردّه إلى أن المرأة في تلك القرى كانت حياتها تسير بشكل روتيني ممل، لم تكن لديها أعمال تقوم بها سوى بعض الأشغال المنزلية، وبسبب عدم وجود الماء لم تكن هناك زراعة، لذلك عندما توفرت لديها فرصة للعمل، رأت فيه متنفساً وإثباتاً للذات.
آثار الحرب في إيقاف المشاريع الصغيرة
منار الحاج، فاطمة بكران، سامية رشيد، سيدات عملن في مشروع عناة، وكان المشروع بالنسبة لهن يمثّل استقلالية، ويؤمن دخلاً يوفر لهن حياة كريمة، اليوم خسرن عملهن، وأصبحن بلا دخل، فالمشروع الذي كن يعملن به، والذي كان يوفر فرصة عمل لأكثر من ألف سيدة، أصبح اليوم عدد السيدات اللواتي يعملن به أقل من عشرين، لديهن أمنية وحيدة هي أن يعود الأمان إلى سورية، وتعود العجلة الاقتصادية إلى سابق عهدها، لأن السوريين لم يعتادوا على الوقوف في طوابير لتلقي المعونات من الجمعيات والمؤسسات الخيرية، وتمنوا على الجهات المعنية أن تولي المرأة، خاصة غير العاملة، اهتماماً، وبالتحديد في مثل هذه الظروف العصيبة حتى لا تكون عرضة للابتزاز أو الاستغلال.
الهوية الوطنية
لا شك في أن التطريز، وكل ما يتعلق به من أعمال حبكة، وغيرها، تمثّل قيمة روحية ووطنية من الضروري الحفاظ عليها، وهي تعتبر نوعاً من المقاومة، والحفاظ على الهوية الوطنية التي منذ بداية الحرب الظالمة على سورية عمل أعداؤها على استهدافها والقضاء عليها، فالاهتمام بالمرأة، خاصة الريفية، واجب يقع على كاهلنا جميعاً بدعمها، وتهيئة الظروف المناسبة لمشاركتها بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وربما من هنا تتضح الأهمية الكبرى لمشروع السيدة هايكه الذي كان سنداً للكثير من السيدات، خاصة المتواجدات في الريف.
لينا عدرة