رأيصحيفة البعث

اتفاق قزوين.. والناتو العربي

 

هي مفارقة كبرى لا ريب فيها، لكنها مفارقة “طبيعية” في العالم الواقعي الذي نعيشه، فبالأمس وقّع قادة روسيا وتركمانستان وأذربيجان وكازاخستان وإيران اتفاقية فيما بينهم كـ”ناد” دولي مغلق لتقاسم ثروات وموارد بحر قزوين لمصلحة شعوب هذه الدول دون مشاركة “أية قوة خارجية”، في الوقت الذي تتكاثر فيه الأنباء عن فكرة إنشاء “ناتو عربي” هدفه الحقيقي استكمال تقديم موارد وثروات الشعب العربي للسيد “الأبيض” الجالس في البيت “الأبيض” أيضاً.

وبالطبع قد يستنكر البعض الجمع بين حدثين مختلفين، أو بين حدث متحقّق، وحدث مازال في طور الفكرة والدراسة، ساهياً عن الصبغة الاستراتيجية المستقبلية لطرح كل منهما على حدة والتي تبرر الحديث عنهما معاً، ففيما يَعِدُ الأول بمنطقة سلام وأمن لشعوب ودول في جوارنا الجغرافي المباشر، يَعِدُ الثاني بمزيد من الحروب والتدمير في قلب جغرافيتنا العربية، وفيما يبدو الأول اتفاقاً نابعاً من قرار داخلي للدول التي تطلّ على هذا البحر تجلّياً تاماً لمساعي خدمة مصالحها الوطنية البحت، لذلك أوجدت له “صيغة قانونية فريدة” ليكون “الضامن للأمن والاستقرار والازدهار في المنطقة”، يبدو الثاني حصيلة قرار خارجي كامل لخدمة رغبات واشنطن ومصالحها مبنياً على صيغة قانونية سابقة تتمثّل بالناتو الدولي، وبمعنى آخر هو مجرد تجلّ جديد للإدمان الأمريكي على البلطجة، وبالتالي “ضامن” آخر لاستمرار عدم الاستقرار وتراجع الأمن والازدهار في المنطقة.

وبمعنى آخر تبدو “اتفاقية قزوين” في مكان ما صك استقلال اقتصادي وسياسي وطني، ودليلاً آخر في توقيتها ومضمونها على بزوغ عصر الأقطاب الدولية المتعددة، حيث يبحث الأذكياء وأصحاب القرار الوطني المستقل عن مكان تحت الشمس مستفيدين من الثغرات والفرص التي يقدمها هذا العصر، فيما يبدو “الناتو العربي” عملية تجديد لوثيقة العبودية والخضوع للخارج الأمريكي، ودليل آخر على أن العرب لم يسمعوا أو لا يريدون سوى غطاء واشنطن، الذي ألفوه منذ أن غابت شمس لندن عن صحرائهم الماضية في تبعيتها وارتهانها.

قد يكون لـ “الاتفاق القزويني” عيوبه وثغراته فهذا طبيعي، وقد تخسر فيه دول أكثر من دول وهذا محتمل، لكنه يبقى “حدثاً تاريخياً” – كما وصفه أحد أطرافه – بكل المعاني والوجوه الممكنة لكلمة التاريخي، فيما سيكون “الناتو العربي”، لو تحقق بالشروط والأهداف التي وضعها سادته، عيباً كله، والعرب بأكملهم سيكونون في صف الخاسرين منه، خاصة ونحن نرى كيف يخسرون مع كل طلعة شمس من “التحالف العربي”، وهو جنين الناتو العربي القادم، الذي يستكمل جرائمه في العرب وقضاياهم وأطفالهم ومستقبلهم ومستقبل العمل العربي المشترك كله إن بقي للعرب مستقبل.

لذلك لا يمكن إطلاق صفة التاريخية على “الناتو العربي”، لو تمّ، سوى من وجهها الزماني البحت، بل ويمكن القول بكل ثقة إنه، فيما عدا ذلك، حدث “لا تاريخي” بالمطلق، بمعنى أنه حدث يعيدنا خطوات عدة للخلف، ولا ينقلنا خطوة واحدة للأمام، يعيدنا إلى تاريخ حلف بغداد، أو تاريخ “نادي السفاري”، مع اختلاف الأطراف المشاركة في الحالتين، واتحاد الهدف من الوجود العربي فيها، وهو خدمة الآخرين أولاً، وخدمة السلالات الحاكمة ثانياً وثالثاً.. وعاشراً.

في يوم ما طرحت سورية قضية “البحار الخمسة” للتشبيك بين دولها وشعوبها المتعددة التي تجمعها هذه الجغرافيا الطبيعية المتنوعة لتحقيق الأمن والسلام والازدهار لأبناء هذه المنطقة بكاملها، وكان الرد تجاهلاً من البعض، وتسخيفاً من البعض الآخر، وانتظار أوامر السيد الأمريكي من بعض ثالث، وكان ما نراه اليوم..

بالمحصلة، دول قزوين تفتتح الغد، أما نحن فنتهيأ مع “الناتو العربي” بقيادة ترامب لاستئناف الأمس، ألم يكن لدينا غزوة أفغانستان سابقاً؟، فلم لا يكون لدينا غزوة “السند” بعد أن تولاها “عدو” واشنطن عمران خان؟!!، وإذا تعذّر ذلك، فلنكمل داحس والغبراء التي نمارسها يومياً.. ثم لا شيء آخر.

أحمد حسن