ثقافةصحيفة البعث

أرواح مهملة

 

تختزن دمشق القديمة تراثها وتاريخها على مدى عصور مرت عليها إلى أن وصلت إلى زماننا هذا، واحتفظت بهويتها الدمشقية الشرقية المعروفة لدى العالم كله، وهو ما أكسبها أهمية بالغة تفرض الحفاظ عليها وصيانتها بطريقة تواكب من خلالها التطور الحضاري لمحيطها.
ولكن هل حافظنا حقاً على تراث هذه المدينة؟. مما لاشك فيه أننا مازلنا نحتفظ ببعض معالمها وأهملنا الكثير منها، تلك البيوت الدمشقية التي تغنى بها العالم من كل أصقاع الأرض لتبدو للوهلة الأولى بمظهر جدّي ملتزم من الخارج، تعبّر عن البيئة والتقاليد التي تحيطها، وما إن تدخل إلى عمقها حتى تدهش بجمالها الداخلي بزخارفها وموزاييكها وفنائها الواسع والمشربيات المغزولة بتقنيةٍ شرقيةٍ مميزة اليوم، ومن البيوت التي عُني بها قصر العظم في منطقة البزورية، وهو الآن متحف للتقاليد الشعبية، وبيت نظام وقد تم اختياره هو الآخر عام 1982 ليكون مقراً ونموذجاً لأعمال الترميم المقامة من قبل مديرية الآثار والمتاحف بدمشق، إلى مكتب عنبر الذي يعود تاريخه إلى 1876، أيضاً تحوّل إلى دار للتعليم وأصبح حالياً مقراً لقصر الثقافة العربية، وحوى هذا المكتب أجمل التصاميم الداخلية بما فيها التزيينات والزخارف والأعمدة الرشيقة والفسيفساء والرسوم الجدارية.
وبالمقابل كان للإهمال حصة أكبر أكل من تاريخ هذه البيوت، ففي عام 2011 زار عدد من الباحثين في مجال العمارة سورية ولاحظوا فيها ذلك الهجران القاسي للمدن القديمة، بالإضافة إلى أن الحرب التي تعصف بالبلاد أعطت الفرصة للحاقدين الأغراب أن يدمّروا ما استطاعوا منها لإخفاء تاريخها وإزالتها نهائياً.
وبيّن تقرير الباحثين بعضاً من أسباب الهجران، فقد حاول بعض قاطنيها مواكبة التطور والابتعاد عن نمط المعيشة التقليدية، بل إن بعض العائلات الدمشقية أمست تنظر إلى المدينة القديمة على أنها منطقة عشوائيات يقطنها الفقراء فقط، ولم تعد تؤدي وظائفها بشكلٍ جيد وخاصة بعد ظهور السيارات بسبب ضيق شوارعها وعدم قدرة الطرق على استيعابها، واليوم عندما تسير في أزقتها تلاحظ عدد المطاعم الهائل الذي اجتاح حاراتها ورائحة القمامة تفوح في مسائها.
من قال إن التطور يجب أن يبدأ بطمس معالم تاريخنا وآثاره؟ فهل التطور يبدأ بتحويل البيت الدمشقي إلى علبة كبريت لاعلاقة له ببيئتنا؟ أو إلى مطاعم و”كافيهات” مستثمرة؟ بدلاً من إحياء إرثها التاريخي بقوة أكبر والمحافظة على نموذجها الخاص، والبدء ببرامج سياحية خاصة تخصّ طابعها الدمشقي، وإنعاشها سياحياً بمهرجانات شعبية في المناسبات العامة والدينية كمهرجان لرمضان مثلاً، على أن نقدم ضمن المهرجان في هذه المدينة القديمة الخجولة عدة فقرات تعيدنا إلى التاريخ الثقافي القديم الذي يتمناه كثيرون في أوطانهم، أو مهرجان رأس السنة الميلادية وأعياد أخرى وغيرها من المناسبات المعروفة. وهكذا نكون قد سلطنا الضوء على التراث الشرقي القديم وأحييناه. علينا أن نغيّر تلك النظرة إلى المدن التاريخية على أنها تراث مادي جامد تجاوزها العصر، وأن نعمل على تطوير المدينة التاريخية بالتوازي مع التطور المعماري والاجتماعي والتجديد الحضاري وكيفية التوفيق بين التراث ‏الثقافي والحاضر، وطرح معايير تضمن إحياءها وفي الآن ذاته تحفظ طابعها الأثري وتراثها الثقافي الذي تتميز به عن غيرها.
ريم حسن