ثقافةصحيفة البعث

من هو المسؤول عن تراجع الأغنية المحلية؟

 

يُقال إن الشعب الذي لا يملِك تراثا فنيا لا يملك ذاكرة ولا تاريخا. لأن الفنّ عموما، والموسيقى على وجه الخصوص، يسهِمان في بناء وتنمية وتغذية الذاكِرة الجمعية، فالأناشِيد والمواويل والأغاني تحفظُ تاريخًا بأكمله، كما أنها تنقل مزاج أزمنة بعينها، كذب فيها التاريخ المكتوب، ووحدها مع غيرها من الفنون من حفظه من التزوير، وربما لن يجدي نفعا السؤال عن سبب تراجع بل تدهور الأغنية السورية، التي كانت في يوم من الأيام، من أهم الأغاني العربية، التي تسلطن الوجدان وتغمر النفس بالمتعة وبالحماس وبمختلف المشاعر التي تترافق معها بأنواعها، كما لن يجدي الحديث عن تخريب الفلكلور السوري الذي نحبه، بـحجة “التحديث” أو “العصرنة” –أي مواكبة روح العصر- الذي يطال روح اللحن والموسيقى والقطعة الموسيقية التي كانت تُعزف بأصابع من ذهب، وصارت تؤدى على “الأورغ” الببغاء الموسيقي وأحد أهم الأدوات الموسيقية المنتشرة في البلد اليوم، طبعا هذا في الحال العام، والأغنية كما هو معروف، هي قصيدة شعرية مع الموسيقى التي هي بشكل فعلي الأغنية، فبدون موسيقى لا وجود للأغنية، ذاك فن وذاك فن، دمجهما الإيقاع والوزن، الأغنية موسيقى أولا، لكن العجب لن يطول، حين نعلم بأن طلاب المعهد العالي للموسيقى مثلا، كانوا في وقت ما ولسنين طويلة، من الممنوع عليهم أن يقوموا في أهم أكاديمية تُدرس الموسيقى في سورية، بعزف الموسيقى الشرقية الساحرة، لذا جاء خريجو تلك المرحلة–الذين هم من كان يجب أن يملأ الفراغ بعد غياب روح الجيل الذي سبقهم من الموسيقيين- بلا روح موسيقية مشبعة بالمحلية، قبل أن ينطلقوا إلى بيتهوفن وموزارت وغيرهم، ليعزفوا لهم ولينجحوا على أساس مدى مهارتهم في العزف تلك الحركة أو تلك السيمفونية، لذا لم تزل موسيقاهم خارجة عن أجواء مجتمعهم وعن الحياة التي يمرّ بها المجتمع الذين هم من أبنائه، ما يقودنا للحديث بشكل ما، عن نوع من أنواع الغناء الذي انحدر حتى صار بلا صفة” وهو “الأغنية الوطنية”، التي هي قصيدة وموسيقى تحملها على محمل الوجد.
جرت العادة أن تنشط أو تقوى في الحروب ظاهرة الأغنية الوطنية، التي كانت في السبعينيات وما تلاها، من الأغاني العظيمة الشأن، في بث روح الحياة والحماس الصادق في كل نفس، عدا عن كون حرب كاملة، بدأت بكلمة سر بديعة “خبطة قدمكم”، إلا أننا في حال قمنا بإجراء إحصاء لحضور هكذا أغاني في الحالة السورية الراهنة، فسنجد أن المرتجل والمنقول والاعتباطي، هي الصفات الأكثر التصاقا بجلّ هذه الأغاني، فما السبب؟ ألا يوجد شعراء لدينا؟ نعم يوجد، الجميع تقريبا شعراء، لكن هل هناك من يكتب قصيدة وطنية تجعل الصخر يحن كما يقال؟ نعم، أيضا نعم يوجد، ألا يوجد موسيقيون؟ نعم يوجد، إلا أن الحديث عن الموسيقيين هو محور الحكاية، فهؤلاء و لكثرة إقامتهم في “الكونشرتو”، نسوا تماما كيف يصيغون لحنا يسحر القلوب ويعصف بالمشاعر حسب الحالة التي تقدمها القصيدة، ما دفع بالعديد من الشباب المتحمس إلى حمل هذا اللواء، والعمل على صناعة أغنية وطنية بأبسط ما يمكن من المعدات “كاميرا موبايل- عود- ناي- إناء يصلح لأن يضبط الإيقاع، أي أنه يقوم مقام الدربكة”، وباتت أغانيهم تملأ مختلف وسائل السوشال ميديا، ولهم جمهور يحبهم ويتابع ما يفعلون، لكن هذه الحالة غير صحية، فأغلب هذه الأغاني جاءت متشابهة في الموسيقى، في الإيقاع، الذي من المفترض على أهل الموسيقى، أن يضبطوه، لا أن يبقى “دوزانه” فالتا.
في دار الأوبرا التي هي دار لكل الفنون، لا يمر شهر إلا وتسمع عن فعالية أو اثنتين، وهذه الفعاليات متنوعة من حيث التسمية، واللون، والشكل، وفيها أيضا لـ”تطوير” الذائقة العامة حفلات موسيقية كلاسيكية، للعديد من أروع ما تمت صياغته من الموسيقا العالمية التي تعود لعصور خلت، والموسيقيون الذين يؤدون تلك المقطوعات، هم سوريون، وبهذا نسألهم: أين موسيقاكم أنتم؟ أين الألحان التي كان من المهم أن تصنع مع القصيدة باندماجها معها، إحساسا شعوريا عاليا، يخاطب الوجدان حتى ذاك الغائب تحت أغطية من ركام عدم الاستعمال، فالموسيقى تخاطب الروح أولا، لماذا تستطيعون أن تقوموا بتأدية أهم السيمفونيات العالمية، لكنكم عاجزون عن صناعة موسيقية محلية جيدة؟.
هذه أسئلة من المشروع طرحها، فالأكاديمية التي درسوا فيها وتعلموا الموسيقى على يدّ أساتذتها،حد البراعة التي لا يضاهيها إلا القلة في العالم، هي أكاديمية حكومية، من يمولها ويمول التعليم المجاني فيها أيضا هي الحكومة، ومن المعروف أن دراسة هذا الفن وغيره من الفنون التي تُدرسها الأكاديمية السورية للفنون، مكلفة ماديا حتى في معهد موسيقي محلي من النوع المقبول، فما بالك بمن أوفدتهم أيضا هذه الأكاديمية لمتابعة الدراسة في جامعات عالمية، فلماذا كانت تفعل هذا؟ أليس لأجل أن يكون حال الموسيقى المحلية جيدا وراقيا، ويصل لحدود العالمية على يد أبنائها، لا منكفئا على عزف بعض المقطوعات الخجولة من التراث المحلي هنا وهناك، وكأنه يُخجل به، وهم من أروع ما صاغته الروح السورية.
ما سبق هو من أهم أسباب تراجع الأغنية المحلية بشكل عام، ومنها الأغنية الوطنية، والحديث عن كون الدراما التلفزيونية هي من ضربت “سوقها” الجماهيري ليس صحيحا، فللحظة، يستمع السوريون إلى عظيم الأعمال الموسيقية التي يحبون، ببساطة لأنها تشبههم، منهم وفيهم، وليست غريبة عن أسماعهم فقط، بل عفا عليها الزمان، وحتى أهلها، لم يعودا يحفلوا بها في أوطانهم، بل تركوها للفخر، وقاموا بصناعة موسيقى أخرى، أيضا جذبت العالم وشاركت في صياغة الشعور الجمعي لشعوبها وللعالم.
إنه لمن المستغرب أن نجد الجمهور بمعظمه، حتى أولئك الذين يقومون بالتقديم على برامج المواهب الغنائية، وفي كل مراحل المسابقة، يتكئون على الأغنية الأصيلة ذات الموسيقى الراقية واللحن الشجي، وهي من على أساسها يصفق لهم الجمهور، وعلى أساسها يقوم بعملية التصويت لما أعجبه من أصوات، غنت أغان يحبها ويستمتع فيها في كل زمن؛ لم يصل ذوقه بعد إلى كلاسيكيينا من الموسيقيين، اللائذين كما ذكرنا في حضن “الكونشرتو” تاركين موسيقاهم المحلية وإرثهم الموسيقي، لمن يخربه ويعيث فيه فسادا.
تمّام علي بركات