دراساتصحيفة البعث

التعاون الدولي حقيقة أم وهم؟

 

الدكتور سليم بركات

يخطىء من يقول بثبوتية أشكال وقوانين التعاون الدولي، لأنها تتغير بتغير الظروف، والأطراف، والمراحل، إنها في الماضي غير ما هي عليه اليوم، وإذا كانت في الماضي مقتصرة على المسائل التقنية، والفنية، والإدارية، فهي اليوم مشبعة بالمسائل السياسية، والمواقف المصلحية التي تشكّل مسار خلاف مستمر داخل وخارج كل تعاون يذكر، بسبب تشبث دول الغرب، وعلى رأسه أمريكا، بمفهوم السيادة المطلقة الذي تطور مع تطور الهيمنة الأمريكية، وتشابك العلاقات الدولية، وما أنتجته الكوارث والحروب التي حلّت في العالم، وعلى رأس ذلك الحربان العالميتان الأولى والثانية، وما تبعهما من حروب حتى اليوم.

في هذا السياق برز مفهومان: مفهوم التعاون الدولي، ومفهوم المساعدة التنموية، ليتبع ذلك إنشاء مؤسسات دولية تتولى هذه المهمة، كان منها إنشاء فرنسا لصندوق الاستثمار الاقتصادي والاجتماعي فيما وراء البحار بغاية تنمية المستعمرات وتأهيلها، كما كان منها مشروع ماريشال الأمريكي لإعادة إعمار أوروبا، وبناء ما خلّفته الحرب العالمية الثانية من دمار، ومن ثم كان مشروع الرئيس الأمريكي ترومان عام 1949 المتضمن تقديم المساعدة إلى الدول النامية والفقيرة بغاية إدخاله في دائرة المعسكر الرأسمالي، والذي شكّل بداية انطلاق شرارة الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي.

عرفت فترة الخمسينيات من القرن المنصرم كتابات لرواد التنمية الاقتصادية بكافة أشكالها ومنطلقاتها، كما عرفت ولادة منظمة دول عدم الانحياز “مؤتمر باندونغ 1955” التي طالبت الدول المنخرطة فيها بتصحيح العلاقة بين الدول الكبرى والدول النامية من خلال تقديم المساعدة المالية والاقتصادية اللازمة لنمو هذه الدول، وعلى أساس التوزيع العادل للثروة بين دول المعمورة دون تمييز، وفي إطار هذه المبادئ عرف التعاون الدولي ما بين 1948-1957 مجموعة من المنظمات الدولية، منها المنظمة العالمية للصحة، وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية الذي أعقبه القانون الأمريكي للمساعدة الغذائية، وتلاه الصندوق الأوروبي للتنمية.

في إطار هذه المنهجية من التعاون الدولي، كانت الطروحات الاستشارية المنظمة للمانحين الكبار من أجل التنمية، والتي أقرت في عام 1962 التوصيات الخاصة بالمجهود المشترك للمساعدة، والمتضمن شروط المنح حسب احتياجات كل دولة، وتبعت ذلك اللجان الأوروبية للمساعدة على التنمية، والتي استقرت دراساتها على عقلنة سياسات التعاون الدولي من خلال الانتقائية المشروطة، أكان ذلك في المجال الأوروبي أو في خارجه.

عرفت تسعينيات القرن المنصرم، وفي موازاة انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، قيام الدول الرأسمالية الغربية بطرح مجموعة من الشروط، واعتمادها كمعايير للاستمرار في تقديم المساعدات إلى الدول النامية، وقد تضمنت احترام حقوق الإنسان، وبناء الديمقراطية، ومراعاة التعددية السياسية كمعايير ضرورية للاستفادة من المساعدات، الأمر الذي أدى إلى تراجع السياسة الدولية التعاونية في هذا المجال، ولاسيما بعد أن تفاقمت المشاكل الاجتماعية والإنسانية في دول الجنوب الفقيرة، وبعد أن برزت النزاعات والحروب الأهلية على أكثر من مستوى في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وزاد الطين بلّة تلاعب الدول صاحبة الامتياز للمنح وتقديم المساعدات، وكيلها بمكيالين، بحجة النقص الحاصل في المصادر المالية بسبب الحروب، والاتفاقيات العسكرية، وبسبب التطاحن على التسلح بين المعسكرين الليبرالي والاشتراكي، إن لم تكن هذه المساعدات في خدمة مصالحها.

بقيت الحال على هذه الشاكلة إلى أن كانت الأزمتان العالميتان: الغذائية، والمالية، وبلغت ذروتها في مطلع القرن الحالي، لتصبح الدول المانحة للمساعدة رهينة أزماتها الداخلية، وبالتالي كان التخلي عن الدول المحتاجة لتصبح بمفردها في مواجهة الفقر والحاجة، وفاقم من الأزمة تصاعد دور الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات تحت تأثير العولمة، ولاسيما بعد بروز منظمات المجتمع المدني في صيغتها الوطنية، وغير الوطنية، وهي تمارس نوعاً من التعاون العالمي بين الأفراد والدول بعد أن اعتمد الليبراليون الجدد هذا الاتجاه الذي يمكن الأفراد، بغض النظر عن موقعهم، من أن يضغطوا لإسماع أصواتهم كي يصبح لهم دور بالموازاة مع حكوماتهم، وبشكل مستقل عنها عند الضرورة.

في إسقاط هذه التصورات على صعيد الواقع الراهن، نجد أن ما يحكم السياسة الدولية المعاصرة هو ميزان القوى المرتكز على البراغماتية والمصالح المتبادلة، الأمر الذي دفع بجدية إلى التساؤل عن حقيقة سياسة التعاون الدولي، وعن الدوافع الكامنة حول التوظيف الأيديولوجي، والسياسي، والمصلحي الذي يخضع الراهن الدولي إلى القوى الكبرى، وللإجابة عن هذا التساؤل نستطيع القول: إن التعاون الدولي في المرحلة الراهنة لا يجسد أية صيغة من صيغ العدالة، فمفهومه في حاضره ليس أكثر من مجرد وهم، كونه ليس أكثر من توظيف أيديولوجي لشرعنة القوى الكبرى المهيمنة على الأوضاع الدولية، والإقليمية، يستبطن الغبن والاستغلال لبقية دول العالم، أكان ذلك على الصعيد السياسي أو على الصعيد الاقتصادي، ولعل تصاعد ميول الغرب الامبريالي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية نحو استراتيجية الهيمنة على دول العالم هو السائد الآن، وإذا كان انهيار الاتحاد السوفييتي السابق قد قاد إلى خروج العالم من مرحلة الصراع إلى مرحلة التشارك، فإن هذا التشارك لم يكن عاماً، وإنما كان مقتصراً على القوى الكبرى المهيمنة.

يعيش العالم اليوم عصر نهاية الأيديولوجيات الذي بشر به الغرب الليبرالي وسخّره لمصلحته ضد مصالح الشعوب، بما في ذلك عصر المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة المؤمركة، والدليل على ذلك مواقف مجلس الأمن السلبية والمهمِشة لقضايا الصراع العربي الصهيوني، وكيفية إصدار العقوبات الاقتصادية على دول العالم، والأساليب المتبعة في معالجة البرنامج النووي الإيراني، والحرب الكونية الإرهابية المعلنة على سورية، حيث قرارات هذا المجلس مرتهنة لرغبات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وقس على ذلك ما تعكس هذه القرارات الدولية من إرادة الغرب المتحكمة في عجلة المؤسسات الدولية السياسية والعسكرية، والاقتصادية، وبالتالي أليست الولايات المتحدة الأمريكية هي من يدعم مصالح الطرف الأقوى في مجال هذا التعاون؟.

إن التكالب الأمريكي على ثروات العالم في عهد ترامب يؤكد عامل المصلحة في تحريك التفاعل الدولي، ولاسيما في الدول التي تمتلك مصادر الطاقة، ومنها الوطن العربي: (غاز، بترول، فوسفات، نحاس، ذهب…)، وهو تكالب متغاض عن أنين إنسان الدول الفقيرة، أو الاستماع إلى طموحاته، ومشكلاته، ومعاناته، وذاهب بشكل فظيع من اللامبالاة مع معضلات الجوع، والقهر، والحرمان، والحروب الآلية، مادامت لا تؤثر في المصالح الحيوية الأمريكية، وبالتالي هل من المنطق والعدل أن تستمر أمريكا في استنزاف خيرات العالم دون أن تلقي بالاً للمشكلات التي تتخبط بها دول العالم، ولاسيما الفقيرة منها، أم أن الأمر يستوجب العمل بسياسة تنموية، إنسانية، تضامنية للتعويض عن الاستغلال الفاحش الذي تتعرّض له هذه الدول؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن منظمة الأمم المتحدة، باعتبارها أهم قناة للتعاون الدولي، هي من يعاني الفشل منذ بداية الحرب الباردة وحتى يومنا هذا بسبب خضوعها لهيمنة الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية؟ ومن ثم ألم تستخدم هذه المنظمة لشرعنة وضعية الامتهان والتحجر الأمريكي الأحادي الذي يتعارض مع القانون الدولي، والمؤسسات الدولية؟.

لقد عانت دول العالم من السرعة التي تحرك بها مجلس الأمن الدولي لإدانة تفجيرات الحادي عشر من أيلول عام 2001، واستصدار قرار حق الأمريكيين بالرد بالطرق التي يرونها مناسبة، في حين كان هذا المجلس يتحرك ببطء وتلكؤ  وهو يتعامل مع قضايا الصراع العربي الصهيوني، وحتى لو كانت هناك قرارات في هذا الاتجاه فإنها ستكون حبراً على ورق، ويلاحظ الأمر نفسه فيما يخص سرعة استصدار العقوبات الاقتصادية على دول العالم، إذ يكفي أن ترى الولايات المتحدة الأمريكية أن دولة ما تناقض مصالحها، أو لا تستكين لمنطق الخضوع والامتثال كي تدفع المنظمة الدولية إلى إصدار العقوبة، غير آبهة إلا بما يخدم مصالحها، والدليل حشودها الدولية في مواجهة إيران على خلفية برنامجها النووي، وكما هو حاصل في معالجة الأزمتين السورية واليمنية، وهذه أمور لا تستقيم مع الديمقراطية وحقوق الإنسان التي تدعيها أمريكا.

بقي أن نقول: أي مكانة تحتلها المنظومة العربية في مجال هذا التعاون الدولي التنموي خارج الإملاءات الأمريكية؟ وهل نبالغ إذا قلنا إن علاقات التعاون العربي الأمريكي مطبوعة بطابع مصلحي، لا يتجاوز تأمين تدفق النفط والمال وفق المصالح الأمريكية، وفي خدمة “إسرائيل”، وهل نبالغ أيضاً إذا قلنا إن بعض النخب العربية الحاكمة هي من يسهم باستمرار هذه الحالة من خلال تبعيتها والإصغاء للإملاءات المفروضة عليها!.