التقانة وتحديات الأمن العالمي
باسل الشيخ محمد
ليس حديثنا ذماً للتقنية الحديثة، ولا تحسراً على ذكريات الماضي، ولا هو تهويل عن أسلحة تتحكم بالطقس وتثير فيضانات وزلازل، بل هو استقراء للأمن العالمي في ظل إمكانية تبادل البيانات، وتطور القدرات الصناعية الراهن.
منذ أيام صدر الحكم على قضية رفعتها ثماني ولايات أمريكية ضد نشر مخططات الأسلحة النارية، سبب الحكم بمنع نشر هذه المخططات هو إمكانية طباعتها بشكل ثلاثي الأبعاد، ما يعني أنه يكفي أن تكون لديك طابعة ثلاثية الأبعاد حتى تتمكن من إعادة إصدار أي نوع من السلاح لم يكن الحصول عليه ممكناً إلا بوساطات تجار الأسلحة، والكثير من المال، والانتظار.
وقبل ذلك بعامين، وفي اختتام قمة الأمن النووي، تركز الحديث عن إمكانية حصول تنظيم “داعش” الإرهابي على سلاح نووي، الأمر الذي اعتبر تهديداً للأمن على مستوى العالم، صحيح أن مثل ذلك التنظيم لن يحوز مفاعلاً نووياً، إلا أن استعمال مواد مشعة، أو وقود نووي، أو منتجات مشعة خطر يهدد الأفراد بتسميم البيئة على أبسط تقدير.
هنالك مخزون يبلغ 1.6 طن من اليورانيوم المشع حالياً في عالمنا، لا تحتاج أية مجموعة تخريبية إلا إلى 25 كيلوغراماً منها لإنتاج قنبلة نووية، ولئن كان تنظيم “القاعدة” قد أعرب عن رغبته في امتلاك سلاح نووي، إلا أن تنظيم “داعش” قد حصل لدى اقتحامه الموصل عام 2014 على خزانتين من مادة “كوبالت 60” المشعة المستخدمة في علاج السرطان، ورغم أن هذه المادة مميتة في حال عدم وجود التجهيزات اللازمة للتعامل معها، إلا أن وجود هذه المادة بحد ذاته يعني أن خطراً من أي نوع قد يلوح في الأفق.
أمام المعطيات السابقة تبدو الهجمات الالكترونية مزحة سمجة، ويبدو خطر الحرب النووية بين دولتين ردعاً كلامياً أكثر منه نية حقيقية، ولكن لا يجب التقليل من شأن الردع النووي أو الهجمات الالكترونية، فمن الواضح أن العالم أصبح أكثر ميلاً للدخول في صراعات عسكرية، ناهيك عن الصراعات التجارية والدبلوماسية، ولا أدل على ذلك من صعود صوت اليمين في دول لم تعرف الخطاب اليميني، كما حدث أثناء الانتخابات الفرنسية، وكما تحدث بعض نواب اليمين الألماني.
تفسر نظرية المئة عام هذا بقولها إن بدايات أي قرن هي فترات التوتر والحروب الكبرى، في حين يرى “هوبز” أنه لا وجود لشيء مثل القانون أو الظلم، والنتيجة الحتمية للأخلاق بحسب رأيه هي أن “الجميع في حرب على الجميع”، غير أن تفسيراً ثالثاً حديثاً يبرز من عالمنا المعولم: إن المصادر المفتوحة للبيانات تؤدي إلى القدرة على استحداث وتبادل أساليب جديدة في مجال تهديد الأمن العالمي، وليس هذا بالأمر الجديد على البشرية، فحلم الأخوين “رايت” تحول إلى القاذفات الطائرة، ومشروع “كارل بينز” لاختراع وسيلة نقل آلية تطور ليصبح الدبابات والمصفحات، أما الديناميت الذي اكتشفه “الفريد نوبل” ليكون مادة تستخدم في مجال التعدين وبناء شبكات النقل، فقد انتهى به الأمر كمكون للقنابل.
يعلم القارئ أنه ما من جهد مشترك بين دول العالم نجح في جعل العالم آمناً، كما يعلم أن مثل تلك الجهود، كحلف الناتو مثلاً، ترمي إلى تحقيق مصالح بعض الدول على سبيل استعمال القوة لا على أساس نشر ثقافة العيش الآمن للجميع، وفي التفاصيل الأصغر نجد تنظيمات مسلحة تعمل أيضاً لصالح مكاسب ذاتية مثل “جيش الرب” الأوغندي الناشط سابقاً، وتذكرون القصة: نشأت هذه الحركة في شمال أوغندا لمواجهة الانتهاكات الخطيرة التي تعرّضت لها عرقية “أشولي”، وحظي التنظيم بدعم كبير في بدايته، إلا أن هذا الدعم تراجع بشدة في أوائل التسعينيات مع تزايد عنفه ضد المدنيين، بمَن فيهم “شعب أشولي ذاته”، زعيم التنظيم وابن “جوزيف كوني” لايزال طليقاً إلى اليوم، فهو يتحرك مع مساعديه في مجموعات صغيرة منفصلة عبر تضاريس شجرية بين حدود الكونغو وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بينما يضع أوامره فوق الأشجار أو تحت الصخور، ويجتمع بأنصاره وجهاً لوجه، ويتجنب الاتصالات الهاتفية خوفاً من رصده.
أي تغيرات في المشهد الأوغندي، المنهك أصلاً، ستحدث لو غدا “كوني” قادراً على استعمال تقنية الاتصالات الحديثة التي لا شك ستجعله بمأمن من التعقب، أو ماذا لو تمكن من الحصول على تصاميم السلاح الكترونياً؟.
السؤال ليس عن “كوني” وحده.. سبق للمراسل البريطاني “جون كانتلي” أن أرسل رسالة تحذير من إمكانية حصول “داعش” على قنبلة نووية قد يشتريها بالمليارات التي يمتلكها التنظيم من دول منتجة للسلاح النووي، لتنقل تلك القنبلة إلى نيجيريا، ومن ثم إلى الولايات المتحدة عبر المكسيك عبر الطرق نفسها التي يتم من خلالها تهريب البشر والمخدرات، وهذا السيناريو وإن كان أقرب إلى التخيل منه إلى خطة واقعية إلا أنه يشير إلى العقلية التي تفكر الجماعات المسلحة بها، إذ يبدو أن هنالك محاولات لتطوير العمليات الإرهابية المحدودة كتلك التي قامت بها، مثلاً، منظمة الألوية الحمراء الايطالية لتصل تلك العمليات إلى حد إزهاق آلاف الأرواح في ثوان.
من جهة أخرى، وفي ظل غياب الجهد المشترك الدولي الذي يرى أن الأمن القومي لدولة ما هو عامل استقرار غير مباشر للدول الأخرى، تعتبر بعض الدول، تزامناً مع التقدم التقني المتوفر للجميع، أن الحلول أقرب إلى أن تكون مستعصية، إذ يمكن تفادي الرقابة الالكترونية، كما لا يمكن إغلاق الأسواق السوداء للسلاح، كما أنه لم تجد الأدبيات الإنسانية نجاحاً إلا في ملء كتب لا يطبق مضمونها أحد، لم تكن هذه الصورة لتبدو قاتمة بهذا الشكل لو كان “مجلس الأمن” في الأمم المتحدة جهازاً حقيقياً يحقق الأمن لجميع الدول، بغض النظر عن الاعتبارات السياسية.. في الحقيقة لم يطرأ تغير على النوازع الإنسانية التي تنتهج، معظم الأحيان، العنف لتحقيق مآربها، ولايزال تجار السلاح يعيشون داخل عوالم مخفية.
ربما يكون من المفيد إنشاء تحالفات إقليمية تتصدى لنشاطات التنظيمات الإرهابية، وسبب ضرورة كون هذه التحالفات إقليمية هو تفادي تصادم مصالح الدول على سياق أشمل لما للاصطفافات الدولية من أثر في تفعيل أو عدم تفعيل هذا التعاون، وللحلول الاجتماعية دور يأتي في المرتبة الثانية بعد التعاون الأمني الإقليمي.. الحكم متروك للقارئ ما إن كان الحل الاجتماعي يأتي أولاً أم ثانياً، ولكن إلى حين يشهد العالم الذي أصبح قرية صغيرة، حالة الهدوء نفسها في القرى الصغيرة، فإن مقولة “هوبز”: “لا يمكن للإنسان التخلي عن حق مقاومة من يعتدون عليه بالقوة لأخذ حياته منه”، هي المقاربة الواقعية الوحيدة.