“الناتو” شمّاعة ترامب لابتزاز حلفائه الأوروبيين
علي اليوسف
يواجه حلف شمال الأطلسي “الناتو” جملة من التحديات المرتبطة بظروف تكوينه، وما طرأ على الخارطة الدولية من متغيرات، أبرزها طبيعة العلاقة المتداخلة بين هيكلية الحلف، ومنظومة الاتحاد الأوروبي، صحيح أن طبيعة تشكيل التحالفات تحكمها ظروف تاريخية، واصطفاف قوى تتشاطر الأهداف الكبرى، إلا أنها عادة ما تتلاشى بانتهاء مهامها المعلنة، وهذا ما نراه اليوم بين الرئيس الأمريكي والحلفاء الأوروبيين، ففي كل مناسبة يهدد دونالد ترامب بالإلغاء أو الانسحاب من الحلف، لكن المنطق يقول إنه ليس بوارد تنفيذ تهديده، لاسيما أن الأمر ينطوي على جملة من التعقيدات السياسية واللوجستية، وموازين القوى الداخلية، فضلاً عن العامل الزمني، لكن الرجل يستخدم هذا التهديد أينما لزم الأمر لممارسة مزيد من الضغوط على دول الحلف ليس إلا.
الناتو بين يدي ترامب
ما الذي تبقى من الناتو والنظام عبر الأطلسي بعد حزمة اللقاءات العاصفة للرئيس الأمريكي في بروكسل، والمملكة المتحدة، وهلسنكي؟.. إن نظرة جدية لهذه الأحداث مجتمعة تعطي الانطباع بأن حلف الناتو معرّض للخطر، ومصيره الآن بين يدي ترامب.
قبل قمة الناتو الأخيرة وخلالها كانت هناك العديد من الشكاوى حول حجم النفقات العسكرية للدول الأعضاء، ومن المتوقع أنه بحلول عام 2024 سيرفع جميع أعضاء الكتلة هذه التكاليف إلى 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، لكن ترامب يعتقد على ما يبدو أنه يجب القيام بذلك الآن وبنسبة 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أكثر مما تنفقه الولايات المتحدة على الدفاع.
في الواقع، شكوى ترامب من أن الولايات المتحدة تتحمّل جزءاً غير عادل من عبء الدفاع الجماعي للناتو، أمر مشكوك به، في حين أن الميزانية العسكرية الأمريكية تعادل حوالي 72٪ من الإنفاق الدفاعي المشترك من قبل جميع الدول الأعضاء في حلف الناتو، وما يقرب من ثلاثة أرباع الإنفاق العسكري الأمريكي موجّه نحو مناطق أخرى غير أوروبا، ويتم إنفاق حوالي نصف ميزانية الدفاع الأمريكية على الحفاظ على وجوده في المحيط الهادي، وينفق ربعاً آخر على العمليات في الشرق الأوسط، والقيادة والسيطرة النووية الاستراتيجية، ومجالات أخرى.
علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد زادت من نفقاتها الدفاعية في أوروبا بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، فإن معظم القوات والمرافق الأمريكية هناك تركز بالفعل على القوس الجيواستراتيجي من الهند إلى جنوب أفريقيا، وبفضل قواعد مثل رامشتاين، فيرفورد، روتا، فيسينزا، وسيغونيلا، استخدمت الولايات المتحدة أوروبا منذ فترة طويلة كقاعدة انطلاق لنشر القوات في أماكن أخرى، بالإضافة إلى وسائل الإنذار المبكر والمراقبة التي تحتفظ بها الولايات المتحدة في المملكة المتحدة والنرويج للدفاع عن الولايات المتحدة القارية، وليس أوروبا، والحقيقة هي أن إجمالي الإنفاق الدفاعي الأوروبي يقترب من ضعف ما تنفقه الولايات المتحدة على الأمن الأوروبي، وأيضاً ضعف ما تنفقه روسيا على الدفاع، وفقاً للتقديرات الصادرة عن جامعة الدفاع الوطني الأمريكية.
الانقسام عبر المحيط الأطلسي
تميزت الحرب الباردة، من عام 1945 إلى عام 1989، بنظام عالمي ثنائي القطب اعتمد فيه الاستقرار على توازن التهديد النووي، بعد عام 1989، ظهر نظام أكثر تفاؤلاً تحت قيادة الولايات المتحدة المهيمنة، ولكن الآن دخل العالم مرحلة جديدة تنتهك فيها الولايات المتحدة جميع المعايير، وتصبح يوماً بعد يوم أكثر نفوراً.
بشكل عام، انفصل ترامب عن حلفائه سياسياً وعاطفياً من خلال مهاجمة القيم الأساسية للديمقراطية، وبهذا المعنى، نرى في الوقت الحالي نقيضاً لأزمة عام 1989 عندما انهارت الكتلة السوفييتية، وبدت الديمقراطية منتصرة، واليوم، ليس من الواضح ما الذي ترمز إليه الولايات المتحدة في واقع الأمر، ويهدد عدم اليقين هذا التحالف عبر الأطلسي بأكمله.
هذه ليست المرة الأولى التي تتوتر فيها العلاقات عبر الأطلسي، ففي أوائل الستينيات من القرن الماضي، رفض الرئيس الفرنسي شارل ديغول دعامة أساسية في هذا التحالف- الناتو- من خلال الحد التدريجي من المشاركة الفرنسية السياسية والعسكرية، في حين رأى الرئيس الأمريكي جون ف. كينيدي حلف الناتو كمظلة مشتركة تدعمها دعامتان: الولايات المتحدة، وأوروبا التي اعتبرها ديغول أداة للهيمنة الأمريكية، ومع ذلك، فإن انسحاب فرنسا من منظمة حلف شمال الأطلسي أدى إلى عزل البلد أكثر من إضعاف التحالف عبر الأطلسي.
وقد تعرّضت هذه العلاقات للخطر مرة أخرى في عام 2003، عندما رفضت فرنسا، وألمانيا، وبلدان أخرى، الانضمام إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في غزوهما للعراق، لكن بقاء التحالف عبر الأطلسي لم يكن موضع شك.
الفرق اليوم هو أن الولايات المتحدة تعارض التحالف، بل النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي بأكمله، وما يحدث اليوم بالضبط هو أن سياسة “أمريكا أولاً” أصبحت “أمريكا وحدها”، ومن غير المحتمل أن يدرك ترامب ذلك ويغيّر مساره، وحتى بعد مغادرته البيت الأبيض، فإن العودة إلى “الحالة الطبيعية” ليست مضمونة بأي حال من الأحوال، حتى لو لم يمثّل ترامب المجتمع الأمريكي بأكمله، فانتصاره لم يكن مصادفة، كانت هناك- ولاتزال- رغبة في الأحادية والانعزالية بين الناخبين الأمريكيين، ولن تختفي هذه النزعات من السياسة الأمريكية، حتى بعد رحيل ترامب، لذلك، لا يمكن لحلفاء أمريكا التقليديين ببساطة انتظار رحيل ترامب، بدلاً من ذلك، يجب عليهم التكيف مع الواقع الحالي، ففي الماضي، كان الأوروبيون في كثير من الأحيان يقللون من قيمة الجغرافيا التي كانت ستفرض علاقة أوثق مع روسيا، وذلك لصالح جغرافيا القيم التي تبرر التوجه عبر الأطلسي.
غموض الجدوى ومبرر ابتزاز أوروبا
تصنّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الغضب عشية لقائه مع رؤساء الدول الأعضاء في حلف الناتو ببروكسل، ومن نافل القول إن ترامب، ومنذ تسلّمه مهامه الرئاسية، برع في “ابتزاز” حلفاء واشنطن التقليديين، سياسياً ومالياً، ولم يخف ترامب مشاعر عدائه للاتحاد الأوروبي ولحلف الناتو على السواء، وعمل على التدخل المباشر بتوازنات الاتحاد بإرساله مستشاره السابق ستيف بانون، أيار 2018، إلى ايطاليا لدعم رئيس وزرائها الجديد، جوزيبي كونتي في حملته الانتخابية نظراً لمناهضته توجهات النظام الراهن، والثلاثي الأوروبي الآخر: بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا يدرك حجم المتاعب التي سيتسبب بها كونتي، وسعيه لتصدع الاتحاد من الداخل.
في المقابل، إن عودة روسيا إلى الساحة الدولية بقوة حفز “بعض” القادة الأوروبيين لعقد شراكة عمل وتبادل تجاري معها، لاسيما في قطاع الطاقة، بيد أن واشنطن لم تحرص على إخفاء توجيه “تعليماتها” لحلفائها الأوروبيين بالتخلي عن مصادقة موسكو، ومازال الجدال مستتراً في معظم الأحيان، وحدها واشنطن لا تألو جهداً إلا وتذكّر الأوروبيين بديمومة “الخطر القادم من الشرق”، وعليهم الامتثال والاصطفاف وراء السياسة الأمريكية، أما الأوروبيون فلهم موقف متباين: الموقف الشعبي عبّر عنه الجمهور الألماني حديثاً بإطلاقه صيحات “أيها اليانكي عُد إلى بلادك،” حسبما ورد في تقرير لوكالة الأنباء الألمانية، وأضافت بأن نتائج استطلاع بين المواطنين الألمان كشفت عن تأييد الأغلبية الساحقة لخروج القوات الأمريكية من بلادهم، ويبلغ تعدادهم 35,000 جندي.
المواقف الرسمية حافظت على مواكبة الطرح الأمريكي، خاصة في لقاء وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي 7 حزيران 2018 الذي أسفر عن تبني قرار بالإجماع لتعزيز التوجهات في عمل مضاد لروسيا، وتشكيل قيادة عسكرية مشتركة للأطلسي في مدينة نورفولك بولاية فرجينيا الأمريكية للتصدي للغواصات الروسية التي تهدد سبل الاتصالات بين أوروبا والولايات المتحدة، وإنشاء مركز قيادة جديد للشؤون اللوجستية في مدينة أولم بألمانيا لتسريع نقل القوات عبر أوروبا في أي صراع قد ينشب مستقبلاً.
وعززت التشكيك بقدرات أوروبا الدفاعية جملة مساهمات سياسية وفكرية في أمريكا، منها أسبوعية ناشيونال انترست، 9 تموز 2018، وواكبها معهد راند، المقرب من المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، مستنتجاً: “الوضعية الراهنة تحول دون قيام حلف الناتو بالدفاع الناجز عن أراضي معظم أعضائه القريبين جغرافياً من روسيا”، ورأى المعهد أن تلك المهمة تستدعي العودة لاستراتيجية شبيهة بعصر الحرب الباردة، وعقيدة الثمانينيات.
التهويل الأمريكي بالخطر الروسي يدركه الأوروبيون بشكل عام، وعلّق مستشار الحزب الأحمر في النرويج، اريك فولد، مؤخراً بالقول إن الرئيس ترامب “لا يتعدى كونه ممثلاً تجارياً لتسويق الصناعات العسكرية الأمريكية، ويدفع باتجاه زيادة الأوروبيين ميزانياتهم العسكرية لشراء معدات أمريكية بشكل خاص”.
وفي الشأن الاقتصادي وقطاع الطاقة بشكل خاص، شكّل استيراد أوروبا الغاز الطبيعي من روسيا عاملاً إضافياً للهجوم الأمريكي عليها كون الرئيس ترامب ينطق بلسان الصناعات النفطية والغاز الطبيعي الأمريكية في محاولة لإقناع الأوروبيين بالإقلاع عن استيراد الغاز من روسيا، لاسيما خط الشمال: نورد ستريم، واستبداله بالغاز الأمريكي.
سياسياً، ومن وجهة نظر الأوروبيين غير الرسميين، يضيف فولد بأن الولايات المتحدة بحاجة أكبر لأوروبا من حاجة الأخيرة لها، إذ إن “دول حلف الناتو تدعم مواقف الولايات المتحدة لتخطي قرارات مجلس الأمن الدولي، والانخراط معها في مغامرات عسكرية خارج حدودها”.