ثقافةصحيفة البعث

ثلاث دقائق من التأمل

 

 

التأمل بالوعي الكامل أداة للعلاج والوقاية الدائمة والمشروعة في الطب وعلم النفس على حد سواء، بدأت تقدر قيمة فوائده سواء في المدرسة أو المؤسسة، فقد لعب التأمل دوراً بالغ الأهمية خاصة أثناء البحث عما هو جيد أو أقل جودة، فكل شيء جيد أو كل شيء سيكون جيداً، ولكنها مسألة لحظة ووعي وخيار حيث يجب أن نعرف ما الذي نحتاجه: هذه اللحظة أم تلك من حياتنا؟ هل نحن حقاً مدركون لما نعيشه؟ وهل نحن في هذه اللحظة نعيش حقاً كما نتمنى؟ إن هذه الأسئلة عميقة ولهذا فإن تمضية وقت في التأمل يجعل منا عموماً بعض الشيء أكثر حكمة وشفافية وإشراقاً.
في كتاب “ثلاث دقائق من التأمل” الصادر عن وزارة الثقافة الهيئة العامة للكتاب ترجمة آلاء أبو زرار يبدأ المؤلف كريستوفر أندريه بعنوان لافت “كونوا حاضرين في حياتكم” ويعرّف التأمل بالقول: هو عبارة عن ممارسة بالغة القدم، فهناك من مارس التأمل سواء في بلاد المشرق أو بلاد الغرب منذ أكثر من ألفين وخمسمئة سنة، وحالياً هناك شغف ينصب التأمل وسببه عوامل عدة: نحن نتمتع بمناهج علمانية في التأمل فليس هناك حاجة لاعتناق دين لكي نتأمل، كما أنه من السهل الوصول إليه حيث يمكننا تعلم التأمل خلال ثمانية أسابيع تقريباً من دون التعرض لمتاعب، إضافة إلى أن الكثير من الدراسات العلمية أكدت فوائد التأمل.
إضافة إلى هذه الميزات الثلاث من علمانية وسهولة وتوثيق علمي هناك ميزة أن التأمل يساعدنا على مقاومة حالات التلوث النفسية الكبرى في عصرنا الحالي، كميول الناس نحو المادية والاستهلاك والتشتت الرقمي حيث يسمح التأمل لنا بالالتفات من جديد إلى ما هو جوهري فهو بذلك يستحق تسميته بتدريب الروح.
ويتابع بالسؤال: كيف اكتشفت التأمل؟ ويجيب: أنا طبيب نفسي مختص بالاضطرابات العاطفية، أي الأمراض المتعلقة بالشدة النفسية والقلق والاكتئاب، لجأت في بادئ الأمر إلى المعالجة من خلال الأدوية خاصة تلك المؤثرة على الإدراك والتصرفات، يقوم هذا النوع من الأدوية على ربط مواقف إدراك ملموسة بالمناقشات التي تدور مع المعالج، ثم بدأ اهتمامي يزداد شيئاً فشيئاً بالوقاية من انتكاسات المرضى، ذلك لأن هذه الانتكاسات يمكن أن تحدث كثيراً أثناء الاضطرابات العاطفية، لهذا يتعين على المرضى التحكم بمشاعرهم طوال حياتهم وذلك بإدراج تعديلات دائمة في حياتهم اليومية وفي نمط حياتهم كعادات جديدة وكطرق بالمعيشة، ذلك يتعلق بالتغذية والتمارين الجسدية إضافة إلى أسلوب حياتهم النفسية الذي يندرج ضمنه طريقة رؤيتهم للعالم وتجاوزهم للمشاعر وكيفية تلقي لحظات السعادة، وقد بدأت في هذا الإطار باستخدام التأمل بكامل الوعي مع مرضاي.
هناك نقطة مهمة: إن الوعي الكامل هو المنهج الذي نستخدمه حالياً في عالم العلاجات، يعود منشأ هذا الوعي الكامل إلى الديانة البوذية لكنه خضع للتعديل واتخذ طابعاً علمانياً بهدف استخدامه في إطار العلاج، ويجب الإشارة إلى أنني لست ضد البوذية بل العكس، لكننا ببساطة لا نستخدم أي جانب ديني لعلاج المرضى.
يتابع المؤلف: بدأت الاهتمام بالتأمل في نهاية العام 1990 وذلك عندما اكتشفت المطبوعات العلمية الأولى التي نشرت حول هذا الموضوع، كل منا يعلم ما قد تصنعه الفرصة من أمور جيدة وقد سمحت لي الفرصة بلقاء ماثيو ريكارد الذي منحني أجوبة عن تساؤلاتي حول التأمل البوذي وساعدني على اكتشاف هذا التأمل، كما أنه أخطرني بأنه علي التواصل مع بعض الرواد في تلك الفترة الذين يعملون على دراسة التأمل بشكل علمي لذا فقد تدربت معهم وخاصة جون كابازين وزينديل سيغال ومن ثم بدأت اعتباراً من العام 2004 باقتراح هذا المنهج على المجموعات الأولى من المرضى أثناء خدمتي الجامعية التي مارسها في مشفى سانت آن في باريس، وقد كانت النتائج مثيرة للحماس سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة للمرضى أنفسهم، وقد منحنا ذلك انطباعاً محفزاً على اكتشاف بعض الأمور التحديثية ذات القدرة العلاجية العالية، وأن الذهاب إلى أكثر من ذلك يمكن أن يغير النظرة اتجاه حياة المعالجين والمرضى على حد سواء.
كان التأمل يثير أيضاً القليل من الريبة لدى بعض المرضى، فقد كانوا يخشون أن نكون معتنقين مذهباً ما أو نكون بصدد اقتراح نزوة علاجية كعصر جديد، لطالما وجدت ذلك أمراً طبيعياً لأن ذلك لا يتعلق بالعلاج بوسائل فلكلورية، لذا فقد وثق فينا المرضى وليس بمقدورنا خداعهم فهذا واجب علينا، لكي لا نثير قلقهم كنا نتحدث في البداية عن “التدريب البسيط” إلا أنه لم يكن أبداً من الخطأ معرفة أن التأمل يساعد على إبقاء انتباهنا في إطار الواقع، كما يمنع فقدان هذا التركيز في أثناء الاجتماعات الافتراضية اللامنتهية والمنهكة والمؤلمة.
وفي النهاية، تمكنا الآن من معالجة العديد من المرضى ومن تدريب الكثير من المعالجين وحصد التأمل بالوعي الكامل نجاحاً باهراً في بلدنا وفي العالم أجمع، ازداد عدد الأبحاث التي سُجلت ونشرت وازداد عدد الأطباء والمعالجين الذين يستخدمون التأمل أو الذين ينصحون به، كما تم إنشاء شهادات دبلوم جامعية في فرنسا من أجل العاملين بالعلاج مثل دبلوم “التأمل والدراسات حول الجهاز العصبي” في ستراسبورغ.
جمان بركات