عيد رغم أنف كل أنف!؟
د. نهلة عيسى
أمس خلعت ابتسامتي، وقناع الفرح اللذين أظهرهما للضيوف والزائرين والعابرين، والمتوهمين أنني أعرف شيئاً عن كل شيء، وقررت أن أحتفل وحيدة بالعيد مع قديسي الأرض (ذوي الشهداء والجرحى)، في يوم يلامس أهداب العيد، لكنه لا يقبض عليه، لأن الوجع رغم التعالي والتسامي، كان بادياً في تفاصيل التفاصيل، حيث لا تستطيع أن تخفيه الابتسامات ولا الهدايا ولا الضحكات المرقعة بخرق المكابرة، والمعدة على عجل في “ميكروويف” الخوف من أن يعرف الآخرون أننا ضعفاء، وأننا محروقون بنار الفراق والنفاق!.
قررت الاحتفال بالحياة وبالعيد مع من هم في ظني العيد، أنا الناجية من الموت- حتى الآن – من حرب لم تنته بعد، وكان مقام جرحانا “مشفى تشرين العسكري” خير بداية للمشوار، لأنني أؤمن أن ما ترحل البحار بحثاً عنه، موجود هنا في هذا المكان، وحالما دخلته، شعرت أنني أدخل عالماً آخر، بدا لي كمسرحية من فصل واحد، يعيد تمثيلها كل مرة أشخاص مختلفون، ويبقى الجوهر واحداً، بشر مثقلون بالوجع، الذي يتدلى من ملامحهم كالوسام، ويبحثون عن الدواء بين يدي من يستعينون بعد العلم بالرب لتخفيف أوجاع من كرمهم الرب!؟
في إحدى زوايا المقام “المشفى”، توسدت الكرسي إلى جانب جريح يشبه الشجرة، رغم كرسيه المدولب، وعلى فمه ابتسامة والكثير من الحكايات، وقد خفت أن أرد على الابتسامة بالكلام والسلام، فتختفي الحكايات، وفوجئت به، بلا مقدمات، يسألني: عاشقة أم معشوقة؟ قلت له: لا هذه ولا تلك، أنا كما قال الشاعر “أمل دنقل”: “ينزل المطر، يرحل المطر، تسأل عن هوانا، تسأل عما كان، ماكان ياحبيبي، حلم وقد عبر”! أنا ببساطة ياسيدي، عابرة حب، ولكني مقيمة وجع، فرد وتجاعيد التجربة رغم صغر السن تقطر حكمة: الحب العابر أصدق أنواع الحب، ففرحت، ثم وجمت، وألتفت إليه متسائلة: هل ينطبق ذلك على الوطن؟ فأجابني: كل حبيب هو وطن، ألم يغادر “الشهداء” جدران عالمنا، ليدخلوا في الريح، دفاعاً عن الحبيب؟ فهززت رأسي موافقة، ودخلت مع الشهداء الريح، لتحط بي في رسالة لزوجة شابة لموجوع، لها وجه جميل وغير مألوف كرسالتها التي رسمتها بأظفار القلب، وبدت كالخدود المتورمة غضباً، أو كالعروق النافرة بدم يغلي، وعندما قرأت ردي نصف الحزين، ونصف المطمئن على رسالتها، والتي يدل على الفهم أكثر مما يعلن الحزن، تلونت قسمات رسالتها بشكر يقف على عتبة البكاء، ويشي بعميق رغبتها في الصراخ آآآآخ، فسارعت بديلاً عنها بالصراخ، فضحكت، وضحكت، وهمست في سري: أنت تباركينني، وعدت للدخول في الريح، متمتمة: لو تعلمين كم أنت عزاء، في زمن يبيع كثير منا ماضيهم على رؤوس الأشهاد ليس بحثاً عن لقمة تستر عورة، بل بحثاً عن كرسي يكشف كل عورة!؟
في مقام أحد الشهداء، تضايقت بعدما توقفت بي الريح، لأنهم أرغموني على ارتداء عباءة، تجعل من الشهيد ولياً وليس مقاتلاً أبياً، وتحول استشهاده من فعل إنساني عظيم، إلى مشيئة إلهية، لا قدرة للبشر عليها، وثمة من يشجع ذلك ويحض عليه، ليساهم (ربما دون قصد) في تخدير وعينا وإرادتنا، في بلد ربع سكانه مهجرون أو مهاجرون، ولزاماً أن يكون الشهيد البشري.. قدوتهم، وليس الشهيد الولي.. مبكاهم!
تضايقت، ولكني كابرت، لأنني أعرف أن العباءة قناع يفرح له البسطاء، لأنه يتيح لهم توهم القداسة، وإعلان الحيرة، الضعف، الخوف، ورمي الحمول على عتبات من يحسونهم أهلاً لرفع الحمول، وجميل أن يصبح الشهداء في بلادي وليس مدعي الدين.. حمال الحمول، ولذلك ومن وحي العباءة، وفي حضرة الشهيد، همست للريح: سنقول للباكين في كل المقامات، زينب التقية، وابن عربي، وفي مقام صلاح الدين: زوارك.. يازينب، يا محي الدين، يا صلاح الدين يبكون.. ولا يدرون، أن كل جبهاتنا كربلاء، وميسلون، وحطين، وأن كل واحد من الواقفين عليها، فيه “الحسين وصلاح الدين، ويوسف العظمة، وجول جمال” وهو يحلف بالتين والزيتون، وطور سنين، وهذا البلد المحزون، أن سفائن الإفرنج، ستغوص تحت الموج, وملوك الفرنج سيغوصون تحت السرج، وراياتهم السوداء ستفري أقدام جندنا.. وجهها المعوج، وبس!؟