“من الرّفش إلى العرشِ”.. لا تنسَ أنّ العالمَ محكومٌ بالمال
يقول الكاتبُ السّوريُّ المقيمُ في ألمانيا البروفيسور”علي إبراهيم دريوسي” الحائز على شهادات عليا في مجال تصميم الآلاتِ الميكانيكيّة في نصوصه المعنونَة بـ “من الرّفش إلى العرش” التي أشرف على مراجعتها اللّغويّة الرّوائي المعروف “حيدر حيدر” وصدرتْ عن دار “أرواد” للطّباعة والنّشر: (لم أكن أرغبُ بالكتابة في مجال الأدب، فهو لا يدخل في نطاق تخصّصي، ثمّ لا وقت لديّ، الأدبُ لا يطعم خبزاً.. عليك ألّا تكون محكوماً بالأمل، ألّا تنسى أنّ العالم محكوم بالمال!.) رغم اعترافه لطلابه بأنّ:(المهندس شاعر العقل والشاعر مهندس الروح، كلاهما يأخذ الكلمات والخطوط إلى نزهات جميلة). وهنا يتبادر إلى الذّهن أسئلة بسيطة سأطرحها بمحبّة وأرجو أن يتّسع لها صدر صديقي الكاتب. هل رسالة الأدب نفعيّة إلى هذا الحدّ أم أنّها ثقافيّة جماليّة بالدّرجة الأولى؟ ثمّ لماذا يتكلّف عناء نشر نصوصه مع أنّها لا تُطعم خبزاً، ولا وقته يسمح بالكتابة، ولا تدخل في مجال اختصاصه؟ رغم اعترافه بأنّ المهندس والشّاعر يتنفّسان من رئةٍ واحدة. و(الهندسة هي عقل العالم والأدب هو روحه). ما فهمناه فيما بعد، من خلال تتبّع نبض النّصوص أنّها وجدت نفسها مسفوحة على بياض الورق استجابةً لاستحسان الآخرين في الفضاء الأزرق لها وتحفيزهم الكاتب على نشرها، لأنّها لامستْ أرواحهم ومشاعرهم، والمسكوت عنه في جوانيّاتهم. وهي فعلاً كذلك، أقصدُ نصوص مجموعته الأولى “اعتقال الفصول الأربعة”. شخصيّاً، أعتقد أنّ السّبب الجوهري لنشرها،هو قناعة الكاتب الذّاتيّة بأنّ لديه ما يقوله ولا يستطيع إلّا البوح به، وهذا ما أراه أنا أيضاً. لكنّ نصوصه الجديدة هذه يغلب عليها الطابع التّثاقفي التّنظيريّ السّجالي الهادف لزجّ القارئ في لعبة الجدل والمماحكة من خلال كسر حاجزي الزمان والمكان وتغييب البعد الثّالث بين ثقافتين، أكثر من الطابع الأدبي الذي توخّته حسب تصديرها على الغلاف بأنّها “قصص ونصوص قصيرة ” والتي أقترح تسميتها بالنّصوص الثقافيّة السرديّة.
العنوانُ المفخّخ
يتميّز العنوان برمزيّة تاريخيّة وسياسيّة عاليتين مشبعتين بنفس الوقت بالبساطة والوضوح الشّديدين رغم هروبه إلى الحكاية الشعبيّة التي تقول: في أوروبا ينتقل الإنسان بين ليلةٍ وضحاها من الرّفش إلى العرش، من عامل بالمجرفة إلى ملك، وفي القارّة الأمريكيّة من جلي الصّحون إلى تاجر مليونير، وأنا أُضيف ـ في بلدان العالم الثالث، ينتقل من أصول شعبيّة متواضعة، إلى المؤسّسة العسكريّة ومن ثمّ إلى أعلى هرم في السلطة بقدرات شخصيّة خرافيّة تفوق بغرائبيّتها الأسطورة. وهذا يؤسّس بالمستوى المجتمعي لسياسة وثقافة الاستبداد والحكم الشّمولي حيث يحلّ الشخص محلّ الوطن مغدقاً على نفسه مزايا الآلهة. ألم يتسنّم عرش التاريخ الميثولوجي قاتلٌ أهال التراب برفشه على جثّة أخيه؟
النّصوص المتعالية
تتضمّن النّصوصُ الثّقافيّةُ مواضيعَ وطروحات عديدة أغلبها إشكاليّ، قد نختلف معها كثيراً في آليّة الطرح ومحاولة الشّرعنة، لكّننا بالتّأكيد نحترم خصوصيّتها، وسنحاول إقامة الحوار معها بمقدار ما تتيحه مساحة النّشر. فهي تروي بصدقٍ موجعٍ قصّة كاتبها وتجربته الذّاتية العصاميّة التي أوصلته إلى المكانة العلميّة المرموقة التي يتمتّع بها في مجتمع متقدّم، بينما لو ظلّ في مجتمعه فربّما كان سيبقى مجرّد موظّفٍ في مؤسسة علميّة وحسب. إنّها تُبرز اغتراب روح المثقف وفصاميّتها، سواء لو بقي في بيئته الأصليّة التي لا تحترم الخصوصيّات ولا الكفاءات، أو انتقل إلى مجتمع آخر تُحترم فيه هذه المزايا، مجتمع يرى فيه جنّة الخلد المنشودة، أو مجال كفاح دنيوي لنشر معتقداته الأصوليّة وأمراضه المذهبيّة حسب المنبت الفكري الذي أنشأه. ثمّ مع الزّمن يتحوّل الاغتراب إلى تأقلم وفاعليّة، ليغدو دعوة واضحة للاندماج بالمجتمع الآخر، وتمثّل ثقافته كحالة استلاب وإعجاب شديدين بمنظوماته القيميّة والثّقافيّة عموماً. مشكلة النصّوص الأساسيّة برأيي، أنّها لا تنظر إلى الوجه الآخر لتلك المجتمعات ونفاق سلطاتها على المستوى الدولي وسياستها الخارجية المهادنة لكلّ أنظمة الاستبداد في العالم والمموّلة لها بكل أدوات البطش والخبرة الأمنية اللّازمة لكمّ الأفواه. ناهيك عن أنّ جنّتها نفسها لمْ تبنَ على الزّهور، بل على الجماجم، حيث النّازية الألمانية حرقت الأخضر واليابس في مجتمعها، وفي كلّ البقع الجغرافيّة التي امتدّت إليها. وأعلتْ من شأن النظرة الشوفينيّة العرقيّة الضيقة إلى مصافي التّقديس، وحاولت تصديرها إلى العالم كلّه، تماماً كما الديكتاتوريّة الستالينيّة ولكن ما يشفع لهذه الأخيرة قليلاً، أنّها كانت في مرحلة الدفاع عن النّفس، قبل أن يصل المجتمع الروسي والألماني إلى ما وصلا إليه، كلّ حسب إمكانيّته وخصوصيّته. وكأنّنا نسينا أنّ نهوض المجتمعات يتطلّب ظروفاً موضوعيّة وتراكمات تاريخية كثيرة تنضج خلالها القوى الخفيّة المهيّئة للتّغيير، والتي قد تتعثّر ولادتها كثيراً قبل الوصول إلى غايتها المنشودة بتغيير المجتمع عموديّاً وأفقيّاً. فنحن كمجتمعات عالم ثالثيّة حسب الدراسات الحديثة الرّصينة، ما زلنا ننتمي إلى تلك المرحلة التي عاشتها المجتمعات الغربية سواء الأوروبيّة أم الأمريكيّة، منذ أكثر من قرنٍ من الزّمن على كافّة المستويات الاقتصاديّة، الثقافيّة،التاريخيّة الخ.. مجتمعات تدور بتبعيّة اقتصاديّة مطلقة في فلك الآخر، وما تجرّه هذه التبعيّة من تبعيّات واستلابات على كافّة الصّعد. مجتمعات ممنوع عليها تحقيق الاستقلاليّة أو بلورة هوية ثقافيّة واضحة من قبل شرطة الإمبراطوريّات الاقتصاديّة العالميّة، ومن هنا تكون المقارنة جائرة برأيي بيننا وبين الآخر. لكن هذا أيضاً لا يبرّر لمجتمعاتنا ركودها وتكلّسها المرعبين، وانتظارها البائس هباتِ السماء التي لن تأتي حتماً. والسّؤال المقلق الآن هو: ما الذي فعلته في مجتمعي وهو واجب عليّ كمثقفٍ أو ككفاءةٍ علميّة، ليكون لي الحقّ في التعالي عليه وعلى هاربيه مع مختلف مشاربهم إلى جنة الآخر؟ هذا الآخر الذي شارك بأساليب مختلفة في إبقاء مجتمعات العالم الثالث على تخلّفها وتبعيّتها له، على الأقل، عبر سكوته في مختلف المنظّمات العالميّة عمّا يحدث من انتهاكات وتجاوزات هائلة بحقوق الإنسان مثلاً. ما قلته لا ينبع من توجّه وطني عاطفي ـ مع أنّه موجود ـ بل ما أعتقده، بأنّه يتحتّم على الجميع، وخصوصاً المثقّفين أن يتخلّوا عن نرجسيّتهم قدر المستطاع ويبادروا من موقع المسؤوليّة الشّخصيّة تجاه مجتمعاتهم المتخلّفة التي تعيش إرهاصاتها التّاريخيّة الحاليّة، للعب دور كبير في وضع لبنات البناء القادم، بعد أن تهدّم كلّ شيْ. أنا أتفهّم رعب المثقف وهشاشة روحه وتمزّقاتها نتيجة ما لحق به على يد السلطات البيروقراطيّة الغبيّة، لكنّني أعلم بنفس الوقت بأنّ ما يحكم المجتمع بالمعنى الطبقي قوى فتّاكة “حلف غير مقدّس” تعمل لمصلحتها ضدّ “حلف المهمّشين” ومنهم المثقّفين،كما حدث ويحدث في كلّ المجتمعات، والكاتب يعي ذلك تماماً، وهو الآن يملك وسائل قوّة جديدة لم يكن يملكها سابقاً، أقصد الـكفاءة العلميّة والمال، وهاهو يقول بوعي وتبصّر: (في الوطن لا يحتاج الإنسان إلى انتماء عائلي أو قبلي أو مذهبي. في الوطن يحتاج الإنسان إلى قانون وحسب) فليناضل المثقّف من أجل إحلال قوّة القانون إذاً!. فـ “جورج شومان” المناضل الشيوعي الذي أعدمته النازيّة 1945م لم يُعاد له الاعتبار في وقته ولكن بعد نضج المجتمع الألماني استُخدمتْ زنازين تعذيبه هو والآلاف من أمثاله كآثار شاخصة ودالّة على تلك المرحلة الدمويّة التي عاشها المجتمع الألماني آنذاك رغم أنّ الذي انتصر فيه فيما بعد، هي القيم الرأسماليّة. وهذا يدلّ على حيويّته وديناميكيّته العاليتين. كما استخدمتْ جامعة “درسدن” بناء التّعذيب الرّهيب هذا، كمكاتب ومخابر للتّدريس وحوّلته إلى موقع أثري سياحي لتنشيط ذاكرة الأجيال القادمة. هكذا تُبنى الذّاكرة والهويّة على القيمة الرمزيّة الكبيرة لـ “اللّانسيان”. يقول الكاتب: (لن أكون رومانسيّاً، سأعترف بأنّني غريب الأطوار، أؤمن بضرورة تعميق الوعي والحقد الطبقي، المشروع الذي لا يجوز تناسيه!. لو كنتُ أعيش في وطن تؤطّره الحروب، لغادرته هرباً حتماً.. لو كنتُ أمتلك بيتاً في وطن الحرب لبعته بأرخص الأثمان قطعاً..الخ) صديقي البروفيسور “علي” ما زال الكثير من الأشخاص الأنقياء وذوي الأرواح العالية لا يملكون في وطنهم بيتاً ولا وظيفة حتى الآن وأنا منهم، لكنّني لا أفلسف الهروب، من منطلق بسيط،هو أنّني قد أكون مفيداً ومساهماً بشكل ما في رمي حصاة في قاع بحيرة الذهنيّة السّوريّة الراكدة حاليّاً، حتى لو كنتُ متوهّماً بعض الشّيء، مع معرفتي التّامّة بأنّ النتائج لن تكون مباشرة أبداً ولن أحصدها أنا في حياتي،ربّما. مهمّتي تتلخّص في الكفاح بكلّ الوسائل المتاحة لإنجاز النهضة المجتمعيّة قدر الإمكان بدل التّنعم بخيرات الآخر والمساهمة في مراكمتها. بحجّة أنها تحترمَ كفاءاتي المدفونة وإمكانيّاتي العلميّة، فلماذا لا يكون لي مشروعي الشخصّي في وطني؟، حيث لا أحد يملك حصّةً فيه أكثر منّي، خصوصاً مع توفر الإمكانيّة الماديّة كما فهمت من سياق النصوص؟! هل الأنانيّة وامتداح الهجرة هما الحلّ؟ هل امتداح الآخر يبني لي وطناً في الواقع أم في المخيّلة؟. أليست التّضحية واجباً مقدّساً هنا؟. يقول الكاتب: (..رغم ذلك أعتقد بأنّني أذكى من معظم الناس، ينبغي أن أتعلّم كلّ يوم طرقاً أكثر نفعاً لإخفاء ذكائي، كي لا يقول أحدهم عنّي: أناني، فوقي، مغرور أو محتال..) لكن ما قيمة الذكاء إذا كان مجيّراً لخدمة الذّات فقط، في مجتمعٍ متفوّق بالأصل؟. ما هكذا تورد الإبل يا صديقي “أبو أبراهام” وأرجو ألا تنطبق على نصوصك هذه، المقولة المعروفة “لا حبّاً بعلي، ولكن كرهاً لمعاوية” تقبّل كامل احترامي؟!.
أوس أحمد أسعد