رحل حنّا مينه
16-4- 1924 في صباح مطير لا تشي تفاصيله بهبوب نوارس تحلّقت حول أنّة امرأة طويلة ومتقطعة، أردفها بكاء خافت لطفل سيكبر لتمرّ الحياة بأطيافها المسرنمة من بين أصابعه المنقوعة بماء التعب، إلا أنّ تلك الطفولة تاهت طويلاً في أزقة العمل المضني، وهي تختبر الحياة بتصانيف نهبها، كيف تمرّ فوق رؤوس الأشهاد، موزّعة الفرح والبؤس بعشوائية مريبة ليكون نصيب صاحب “المصابيح الزرق” من تلك الأعطيات، ليس إلا الشقاء بعينه، فالفرح ليس مهنته، والحياة لم تكن إلا إحدى هواياته الفقيرة.
نشأ “حنا”، وتململت طفولته من أحلامه القاسية في إحدى قرى لواء اسكندرون على الساحل السوري؛ وفي العام 1939، عاد مع عائلته إلى مدينة اللاذقية، وهي عشقه وملهمته بجبالها وبحرها؛ كافح كثيراً في بداية حياته، وعمل حلاقاً وحمالاً في ميناء اللاذقية، ثمّ بحاراً على السفن والمراكب؛ اشتغل في مهنٍ كثيرة أخرى، منها مصلح دراجات، ومربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى صحفي أحياناً، ثمّ إلى كاتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، إلى موظّف في الحكومة، إلى روائي؛ تدرّج في كتابة العرائض للحكومة، ثمّ في كتابة المقالات والأخبار الصغيرة للصحف في سورية ولبنان، ثمّ تطوّر إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص القصيرة.
بدأ بإرسال قصصه الأولى إلى الصحف السورية في دمشق بعد استقلال سورية. أخذ يبحث عن عمل، وفي العام 1947، استقرّ به الحال في العاصمة دمشق، وعمل في جريدة الإنشاء الدمشقية، حتى أصبح رئيس تحريرها.
واحدة من تجارب صاحب “الياطر” بل أول أعماله كانت عبارة عن عمل مسرحي “دينكشوتي”، إلا أن تلك الأوراق التي خطها في أوقات فراغه، وهو يلهو بالحرمان، ضاعت من مكتبته، ولم يبقَ لها أثر حتى في ذاكرته.
لم يغادر البحر بلجته وصفائه الخادع، ذاكرة الشاب الذي أحب دمشق، وعشق تفاصيلها، لذا كانت لديه أمنية، اشتغل على بناء أقاليمها في رواياته، وهي أن ينتقل البحر إلى دمشق، أو أن تذهب دمشق إلى البحر، يقول صاحب “نهاية رجل شجاع” في هذا الشأن: (أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنّني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات).
كان من الذين شاركوا في المؤتمر الأول للأدباء العرب عام 1954، الذي شاركت فيه الصفوة من هؤلاء الأدباء، ومن جميع البلدان العربية، يتقدّمهم شيخ الأدب مارون عبود، بدعوة من الرابطة، وعن هذا المؤتمر، انبثقت رابطة الكتاب العرب، فانتسب إليها الكثيرون، من الباحث حسين مروة، إلى القاص يوسف إدريس، إلى الشاعر عبد الوهاب البياتي، إلى أمثالهم من كبار المبدعين العرب.
أصبح “مينه” من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سورية عام 1968، وقد كان العنوان المقترح لهذا الاتحاد هو “اتحاد الكتاب العرب والعاملين في الحقل الثقافي”، وفي الجمعية التأسيسية، برئاسة الراحل سليمان الخش، جاهد، مع زكريا تامر، وآخرين، لحذف عبارة «العاملين في الحقل الثقافي» لشمولها كلّ من هب ودبّ من العاملين في هذا الحقل.
تشتغل أعمال صاحب “الدقل” الأدبية على مزج الواقع بالرمز والأسطورة، والذاتي بالموضوعي، والفطري بالعقلاني، وتتميز، أيضاً، بكونها متوازنة في طرحها قضايا المسحوقين والمهمشين والفقراء، فرواياته لا توغل في التجريد، فتغترب عن الواقع، ولا توغل في التسجيلية، فتفتقد إخلاصها للفن الروائي، ولا تنحاز إلى المذهب السياسي على حساب الاتجاه الفني، كما يتميز أسلوبه بلغة تجمع بين الرشاقة والقوة والشاعرية.
لـ “حنا مينا” العديد من المواقف الوطنية المشرفة ضدّ الاستعمار الفرنسي وذيوله المحلية، حيث رصدت بعض رواياته واقع تلك المرحلة بتفاصيلها المؤلمة، تفاصيل دفع ثمنها الفقراء الذين دافع عنهم، وجعل قضيتهم شأنه الشخصي في معظم أعماله، ولعل روايته (نهاية رجل شجاع)، التي حولها الكاتب حسن م يوسف، والمخرج نجدة أنزور، إلى عمل درامي تلفزيوني، من أهمّ الروايات العربية، التي نقلت، ببساطة عالية الدهشة، واقع الحياة المرير، الذي حاول الفرنسيون تكريسه نمطاً مستمراً في إخضاع السوريين ومص دمائهم.
قضى الأديب السوري الكبير حنا مينا آخر أيام حياته، في بيته المتواضع في مدينة اللاذقية التي يعشق، تاركا أمنية مؤلمة، أو ربّما وصية مؤلمة يقول فيها: أشدّد، لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وحفلة التأبين، كما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، أستغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
أقارن بين هذا الجبل السوري الراسخ في أرضه، بمواقفه الوطنية العظيمة وأعماله الأدبية، وحياته المتواضعة والبسيطة، التي رفض أن يغيّرها، وبين العديد من عديمي الموهبة، القافزين والقافزات على مهنة الأدب كنوع من تسجية الوقت، بأعمال يقال إنها أدبية، وهي لا ترقى إلى ذلك، إلا بعكس المضمون ومفهوم المعنى، ليصبحوا فيما بعد من حملة أقلام الخيانة عندما حدث ما يحدث في سورية الآن، وهنا يكمن الفارق الحقيقي بين من يحيا بين الحبر وهو يتنفّس هواء بلاده، ويعيش على أرضها بإرث نبيل وعظيم من أهمّ الأعمال الأدبية، وبين ساكني الطائرات وروّاد شاشات الكفر بالوطن، تحت مسمى “مثقفون” ولكن المقارنة وحدها لا تليق بل مخجلة.
“البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إنّ معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أمّا العواصف، فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أنّ يكون المرء بحّاراً؟:.
هذا الكلام هو ما تركته روح شفتين تحفظ نكهة البحر، وعذوبة ملحّة عن ظهر قلب، من عينين اختبرتا طويلاً طعم الألم، وهما ترنوان إلى أشرعة تلوح في الأفق نداءاتها: أن هبّ إلي لأقصيك عن شاطئ الوجع هذا، وهاهو يمضي فيه لأنّ قلبه المكتظ بأسماك البحر الشقيّة وشعابه المرجانية الملونة، أدرك أنّ العالم لا يتسع لمن يملأ المالح الأزرق رئتيه، وهو يتنفس رؤى أخبرته بسرٍّ قبض على جمره طويلاً:”الكتابة ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة”.
مات حنا مينا.. صبي ليالي الأرق الطويلة، الذي اصطادته الكلمة، بعد أن أغوته برنين خلخالها الصاخب، وهي تقصف ببال الفتى، قبل أن يدرك أنّه سيكون من أهمّ روّاد الرواية السورية والعربية، ومن القليلين الذين اختارهم البحر ليورّطهم بكتابة مدائحه العاتية، وهي تكسر الأقلام وتبلّل الصحف.
تمام علي بركات