المعتوه والخبثاء الذين وظفوه
عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين
منذ أن وصل دونالد ترامب إلى سدّة الرئاسة في الولايات المتحدة والاتهامات الموجهة إليه، سواء من وسائل إعلام أمريكية أو غير أمريكية، لم تنقطع، وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً دوراً واسعاً في تلك الحملة، ولم تبق علة من العلل الشرعية إلا وألصقت به، حتى إنه اتهم بالجنون وعدم الأهلية ليكون رئيساً، وبات أقل وصف يوصف به أنه المعتوه، هنا وأمام ظاهرة من هذا النوع نجد أنفسنا معنيين بطرح الأسئلة التالية:
1- أين كان أصحاب الحملة على ترامب خلال مرحلة الترشّح للرئاسة ومنافسة هيلاري كلينتون؟.. أكانوا جاهلين تماماً بمواصفاته، ولم يكتشفوها إلا بعد أن صار رئيساً؟!.
2- كيف نفسّر نجاح ترامب في الانتخابات دون أن نسلم بأن وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي تسوق له الاتهامات الآن كانت هي ذاتها قد سوّقت له وأسهمت بنجاحه؟.. فهل يريد أصحاب هذه الظاهرة أن يقولوا بأنهم كانوا غافلين ومخدوعين، ولم يكتشفوا صفاته إلا بعد وصوله إلى البيت الأبيض؟!.
3- هل من أحد على وجه الأرض يستطيع إقناعنا بأن وسائل الإعلام والاتصال التي ساهمت في نجاحه، ثم راحت تشكك في أهليته، تعبّر عن أمزجة أفراد في المجتمع الأمريكي، وليس عن قوى ومنظمات، وخاصة عما يمثّله اللوبي الصهيوني من نفوذ وسيطرة؟.. وهل يستطيع أحد أن يقنعنا بأن ترامب نجح رغم أنف اللوبي الصهيوني وليس بمساندة منه؟!.
ربما قال البعض: إن المسألة لا ترتبط بشخص المرشّح للرئاسة، وإنما بموقف الجمهور من الحزبين المتنافسين الجمهوري والديمقراطي، وإن ترامب لم يفز بصفته الشخصية، وإنما بوصفه مرشّح الحزب الجمهوري، وإن الجمهور بهذا الاختيار يكون قد سحب الثقة من الحزب الديمقراطي لصالح الجمهوري، وهذا احتمال وارد بطبيعة الحال، ولا نستطيع نفيه، لكنه يثير بدوره أسئلة جوهرية، أولها وأهمها يدور حول الأسباب التي دفعت بعض جمهور الناخبين لينحازوا إلى الحزب الجمهوري على حساب الديمقراطي؟!.
لا نظن أن هناك من أحد يستطيع إعطاءنا أسباباً مقنعة بصدد هذا التحول ترتبط بأمور الداخل الأمريكي، خاصة أن من راحوا يشككون بأهلية ترامب جعلوا من تراجعه عن إنجازات أوباما الداخلية سبباً لحملتهم، مع أن ترامب خلال حملته الانتخابية عبّر عن معارضته لتلك الإنجازات، وهذا يعني ببساطة أنهم انتخبوه رغم مخالفتهم له، ومخالفته لهم في بعض الشؤون، فما هو عندئذ الشأن الذي جعلهم ينحازون إليه؟!.
لابد أن يكون هذا الشأن خارجياً، ولابد أن يكون مرتبطاً بالحرب الكونية التي كانت تشنها الولايات المتحدة على سورية والوطن العربي، ولعل ما أخذ على أوباما في ذلك الحين أنه لم يلجأ إلى التدخل العسكري المباشر والشامل في المنطقة، كما كان من عبّأهم لصالح تلك الحرب يتوقعون، وبالفعل، فإن من تابع تطورات المسلك الأمريكي يجد أن ترامب أراد ومنذ الأسابيع الأولى لتوليه السلطة أن يسجل تدخلاً أمريكياً مباشراً ولو محدوداً، فكان العدوان الذي شنه على مطار الشعيرات.
وهنا علينا أن نتذكر بأن هيلاري كلينتون كانت على رأس الدبلوماسية الأمريكية حين شرعت واشنطن في تنفيذ المخطط الشيطاني الصهيوني، وأنها قامت بالدور المطلوب منها في إدارة هذا المخطط، ولا ريب أنها هي من قامت بتعبئة ما أسماه أوباما نفسه بـ “ائتلاف الثمانين”، وهو ائتلاف لم ينفرط عقده عملياً حتى اللحظة الراهنة بسبب الإصرار الأمريكي على معاقبة من يخرج عليه، ولا أحد يستطيع القول بأنها أقصيت عن الدبلوماسية الأمريكية بسبب الفشل، أو بسبب احتفاظها ببعض المراسلات الخاصة بالوزارة، واعتبرت سرية على حاسوبها الخاص، وهي على كل حال قضية أثيرت بعد استقالتها بزمن، فالأرجح أنها تفرّغت لبدء حملتها الانتخابية للترشّح للرئاسة، وأن حزبها دعم هذا الاتجاه.
إذاً هناك شيء ما جعل قسماً من أنصار الحزب الديمقراطي التقليديين ينحاز إلى ترامب في مواجهة هيلاري، وطالما أن المؤشر الوحيد يتعلق بالحرب على بلادنا، فإن هذا القسم لا يمكن أن يكون إلا من اللوبي الصهيوني ومن يدورون في فلكه، لكن اللوبي الصهيوني لن يلعب هذه اللعبة إلا إذا كان قد حصل من ترامب على وعود معينة لم يحصل على ما يوازيها من الطرف الآخر، أو أنه رأى في ترامب النموذج الأقدر على تنفيذ المطلوب من خلال تصويره بالمعتوه، أكثر مما تستطيع هيلاري أن تفعل.
إن وعوداً من هذا النوع، أو ترتيبات من هذا النوع، تدخل حتماً في نطاق الأسرار التي لا يباح بها، لكن ما يكشف عن هذه الأسرار الخفية هو السلوك الظاهري للمعنيين بها، أو لنقل السلوك العملي، وهنا بالضبط نستطيع أن نفهم كيف أنهم ساندوا حملة ترامب الانتخابية، سواء بالتصويت لصالحه عملياً ولو دون إعلان، أو بالتزام الصمت تجاه حملته الانتخابية مقابل محاولات للمس بحملة هيلاري بما يضعف موقفها أمامه، ويكفل له الفوز.
هنا سيقال: إذا كان هذا هو ما فعلوه، فلماذا أبدلوا سلوكهم بمجرد فوزه بالرئاسة ووصوله إلى البيت الأبيض؟.. هل أخلّ بالتزاماته تجاههم فانقلبوا عليه، أم أن الأمر ليس كذلك؟!.
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال دعونا نطرح على أنفسنا سؤالاً آخر: هل تجاوزت الحملة على ترامب بعد فوزه دور “المهماز” لتتحول إلى طعنة؟.
في الحقيقة إنها لم تتجاوز دور المهماز، ولم تتحول إلى طعنة أو عرقلة من أي نوع، ولكن اختيار دور “المهماز” يعني أن هناك شيئاً ما يتطلب من ترامب أن يؤدّيه، دون أن يظهر شركاؤه فيه، ولا ضرورة في هذه الحالة لأن نتصور بأن الغاية من دور المهماز والتشويه والنعت بالمجنون أو المعتوه هي تحريضه على أداء هذا الدور، فقد يكون الهدف عملياً غير ذلك، وأن تكون الغاية هي تظاهر طرف أو أطراف بأنها لا تشارك ترامب في المسؤولية عما يفعل، ومن ثم لا تتحمّل معه المسؤولية عما سيفعل، وعندئذ علينا أن نفكر ملياً في طبيعة ذلك الشيء الذي يتوجب على ترامب “المعتوه” أن يفعله دون أن يظهر شركاؤه أو من يقفون وراءه في الصورة وكأنهم طرف في هذا الفعل.
لا نظن أنه من الصعوبة بمكان أن نتعرف على طبيعة هذا الشيء، فسلسلة الإجراءات الاقتصادية والمالية التي اتخذها ترامب، وخاصة في الفترة الأخيرة، والتي مازال يطالعنا بالجديد منها في كل يوم، هي بالتأكيد ليست مغامرة أو مقامرة رجل متهم بأنه مجنون أو معتوه، ولو أنها كذلك لرأينا من يملكون القدرة على اعتراض سبيله بشكل عملي، وخاصة في الكونغرس، ينبرون له، ولكننا رأينا مظاهرة استقالات لمستشارين في البيت الأبيض، ولم نر أي نوع من الحراك المعاكس لنهجه من قبل الشيوخ، وكأن الشيوخ لم يعد لهم وجود، وهذا يعني ببساطة أن قرارات وإجراءات “المعتوه” تخدم القوى التي تقف وراء الشيوخ، جمهوريين وديمقراطيين.
من هي هذه القوى؟.
تتمثّل هذه القوى، كما هو معروف، في فئتين: أولاهما فئة أصحاب الاحتكارات الرأسمالية الكبرى في الولايات المتحدة، وفئة شركائهم من أصحاب رأس المال المالي اليهودي المهيمنين على القطاع المصرفي الأمريكي، ولا يخفى على أحد حجم النفوذ اليهودي في هاتين الفئتين، وحين نقول “حجم النفوذ اليهودي” فهذا يعني بشكل تلقائي أمرين مترابطين: أولهما التأثير الإيجابي أو السلبي لقرارات ترامب الاقتصادية والمالية على هاتين الفئتين، ما يجعل اللعب في هذه الحارة دون تحكمهما المسبق باللعب، واطمئنانهما إلى النتائج، أمراً مستحيلاً، وثانيهما التأثير الإيجابي أو السلبي لهذه القرارات على الأهداف الصهيونية أولاً، والامبريالية الأمريكية ثانياً، وبالتالي حتمية خضوع هذه القرارات للدراسة المسبقة من قبل الجهتين المعنيتين على الأقل.
ولنلاحظ أننا حين نتحدث عن هاتين الفئتين فإننا نتحدث أيضاً وضمنياً عن امتدادات لهما في دول العالم الأخرى، وهذه الامتدادات تجعل المصالح متشابكة.
والسؤال الآن: أيعقل أن يكون ترامب في قراراته وسياساته الاقتصادية والمالية مجرد رئيس مغامر مقامر معتوه يمارس لعبة السياسة بطريقة رجل المال المغامر المقامر الذي يهمه أن يحصل على أكبر قدر من الربحية تحت غطاء الشعار الذي رفعه “أمريكا أولاً”، دون أن يكون المتحكمون بمقدرات أمريكا الاقتصادية ومقدرات كثير من دول العالم الأخرى طرفاً في اللعبة الترامبية؟!.
إن الجواب عن هذا السؤال أكثر من واضح، وهو أن وراء سياسات ترامب وقراراته خطة شيطانية وضعتها له قوى تمثّل بشكل أساسي رجال المال والأعمال الكبار في أمريكا، ولها وجهها أو عمقها اليهودي الصهيوني بالتأكيد، بحيث يراد لتلك السياسات أن تخدم الأهداف الصهيونية من جهة، وأن تجلب الفوائد لأصحاب الاحتكارات والمؤسسات المالية الكبرى في أمريكا من جهة ثانية، وألا تؤثر سلباً على المصالح الأمريكية والصهيونية خارج أمريكا من جهة ثالثة ما لم تكن الخطة أساساً تلحظ تقوية تلك المصالح، أو ما يترتب عليها من المرابح.
لسنا معنيين هنا بالوقوف عند الأبعاد الاقتصادية لقرارات ترامب التي أريد لها أن تبدو عالمية تمس من تعاديهم أمريكا مثلما تمس حلفاءها أيضاً لتشتيت أنظار الناس عن الهدف الرئيسي، وما يمكن أن يترتب على هذا السلوك من نتائج، ولكن ما يعنينا بالدرجة الأولى هو ذلك البعد السياسي الكامن وراء لجوء إدارة ترامب إلى فرض عقوبات اقتصادية على دول معينة، وإلى مطالبة كل الدول الأخرى بمشاركتها في فرض هذه العقوبات وإلا تعرّضت بدورها للعقوبات، فهنا نحن أمام حرب فعلية تبدأ اقتصادية، ويراد لها أن تكون عالمية.
إن قليلاً من التمعن في أبعاد المشهد، رغم ما بات يتسم به من التعقيد، يكفي للدلالة على أن ترامب يستهدف من قراراته التي تتخذ شكل العقوبات، أو التخلي عن الاتفاقيات، طرفين هما روسيا وإيران، وهذا تطور خطير لا يمكن إخفاء الارتباط بينه وبين فشل الحرب الكونية على سورية والمنطقة العربية في إطار المخطط الشيطاني المتعلق بمشروع “الشرق الأوسط الجديد”، فأمريكا تصعّد حربها الكونية في خدمة المخطط الشيطاني الصهيوني من خلال استهداف روسيا وإيران، وهي تبدأ هذا الاستهداف من بوابة الاقتصاد والاتفاقيات.
لا نظن أن استهداف “المعتوه” لروسيا وإيران على هذا النحو يعكس عقليته الخاصة وما تتصف به من تقلبات كما يقال، فمثل هذا الاستهداف لا يمكن إلا أن يكون جزءاً من منطق أصحاب المخطط الشيطاني الذين اعتقدوا بإمكانية تنفيذ المرحلة الأولى من مخططهم لتمكين “إسرائيل” من التوسع بين الفرات والنيل قبل أن تتدخل دول أخرى مثل روسيا وإيران لتشارك في مواجهة العصابات الإرهابية التي جنّدوها في تلك الحرب، ولكن طالما أن هذا التدخل قد حصل، وطالما أن المخطط الشيطاني الأصلي مني بالفشل، فإن أصحاب المخطط يرون ضرورة توسيعه لتشمل دائرة الاستهداف كلاً من روسيا وإيران.
إن ما يفعله “المعتوه” ليس نزوة أو نزوات، بل هو تنفيذ لمخطط شيطاني وضعه من وظفوه لهذه الغاية، فأصحاب المخطط الشيطاني لا يريدون التسليم بفشل هذا المخطط بعد الهزائم التي ألحقت بأدواتهم في سورية، وإنما قرروا اللجوء إلى توسيع دائرة الاستهداف، ووضعوا روسيا وإيران في مقدمة الدول المستهدفة، وما يجعلهم يستغلون “المعتوه” هو أنهم لا يريدون لمصالحهم في مختلف بلدان العالم أن تتعرّض للأذى في حالة انكشاف الدور الخبيث الذي يلعبونه من وراء الستار، وإن أقل تفكير في التطورات من شأنه أن يقودنا إلى الاستنتاج بأن هذا النوع من التطوير في المخطط كان واضحاً لدى هؤلاء حتى قبل فوز ترامب في الانتخابات، وأن فوزه كان مرتبطاً بتعهده بتنفيذ المخطط الذي يملى عليه، وأن تشويه صورته هو أيضاً جزء من اللعبة، لعبة المعتوه والخبثاء الذين وظفوه.