ألمانيا تحتضن إرهابيي “الخوذ البيضاء”
د. مازن المغربي
قبل بضعة أيام، استقبل وزير خارجية جمهورية ألمانيا الاتحادية وفداً عن منظمة الخوذ البيضاء برئاسة رائد صالح، لم تتوقف وزارة خارجية ألمانيا عند واقعة أن اسم المدعو رائد صالح مدرج على قوائم الأشخاص المرتبطين بالمنظمات الإرهابية الدولية، وأنه ممنوع من دخول أراضي الولايات المتحدة، وتجاهلت الشبهات التي تدور حول تورط أفراد من هذه المنظمة في جريمة تعريض مجموعة من الأطفال السوريين لخطر داهم من خلال فبركة تمثيلية حول استخدام أسلحة كيميائية خلال عملية تحرير الغوطة من قبضة العصابات المسلحة، كما تداولت الصحف الألمانية نبأ عزم الحكومة الألمانية منح خمسين فرداً مرتبطين بهذه المنظمة حق اللجوء، دون أية إشارة إلى المعايير التي تم اعتمادها في تحديد الأشخاص الذين تم اختيارهم.
لم يكن هناك توافق ضمن الحكومة الألمانية حول الموقف الذي يجب اتخاذه تجاه هؤلاء الأشخاص، لكن وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر صرح بأن ألمانيا ستحتضن ثمانية من أعضاء المنظمة مع عائلاتهم، لأن ثمة خطراً على حياتهم في سورية.
وبالمقابل صرح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس بأن بلاده دعمت جهود هذه المنظمة على مدى سنوات، لكن هذا الموقف لم يمر دون انتقاد، حيث اعترض حزب اليسار الألماني على هذا الموقف، واقترح أن تقوم الحكومة بمنح جوليان أسانج حق اللجوء، حيث إنه مهدد بالطرد من سفارة الأكوادور في لندن التي عاش فيها منذ عام 2012، ووصف الحزب جماعة الخوذ البيضاء بالإرهابيين، وضمن هذا السياق صرحت نائبة رئيس حزب اليسار هايكة هنسل بأن هناك تناقضاً مطلقاً في موقف وزير الداخلية الذي يقول من جهة بأنه يريد محاربة الإرهاب، ومن جهة ثانية يسعى لجلب أعضاء من ميليشيات الإرهاب إلى ألمانيا!.
يندرج موقف الحكومة الألمانية ضمن سياق مسار سياسي قديم معاد للدولة السورية تبلور في تحويل المركز الألماني في دمشق إلى نقطة استقطاب لأفراد من المعارضة، وطرح مشروع تغيير نظام الحكم بما يتعارض مع مهمة المركز المحصورة في نشر الثقافة الألمانية، وتدريس اللغة، كما احتضنت ألمانيا مجموعة من المعارضين السوريين، ومنحتهم فرص عمل، وسهلت لهم الاتصال بوسائل الإعلام الكبرى، وشارك المعهد الألماني للأمن والشؤون الخارجية مع معهد السلام في الولايات المتحدة في مشروع حمل اسم (اليوم التالي)، والمقصود هو اليوم التالي لإسقاط الدولة السورية، حيث احتضنت برلين في الفترة ما بين كانون الثاني وحزيران من عام 2012 أعضاء من هذا المشروع كلّفوا بإعداد تقرير حول التغيرات الكبرى المزمع تطبيقها لإعادة هيكلة المجتمع السوري، وقد تم دعم العمل بجهود خبراء في التخطيط الدولي، وضمن هذا الإطار تم تشكيل ست مجموعات عمل، ركزت كل مجموعة على جانب محدد من شكل الحكومة التي ستقام.
والآن بعد حسم نتيجة الصراع لمصلحة الدولة السورية، وبعد أن تبيّن للجميع أن معارضة الخارج لا تمتلك أي وزن في المجتمع السوري، وبعد أن بدا واضحاً أن كفة المتطرفين هي الراجحة بين صفوف الجماعات المسلحة، بادرت برلين إلى تغيير شكل تدخلها في الشأن السوري، ووجدت في مشروع إعادة إعمار البلاد بوابة جديدة تسعى للتسلل عبرها.
وثمة أخبار عن وجود تفاهم رباعي بين روسيا وألمانيا وفرنسا وتركيا للعمل سوية في ملف إعادة إعمار سورية، في ظل عزوف الولايات المتحدة للمرة الأولى منذ عام 1945 عن قيادة عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط، ولكن يبدو أن هناك إقراراً بأن الدور الأكبر سيكون من نصيب الصين التي تخطط لدخول المسرح الدولي بوصفها اللاعب الرئيسي بحلول عام 2049، ومرور مئة عام على تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وتلوح برلين بموضوع الامتناع عن المساهمة في المشروع في حال لم تتم مراعاة مصالحها السياسية، وهناك أخبار عن قمة رباعية قريبة سيتم عقدها لوضع تصور شامل حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط.
وتعتبر برلين أن أمامها فرصة تاريخية لتعزيز نفوذها في منطقة الشرق الوسط ضمن نطاق دائرة تحيط بأوروبا، وتمتد من شمال أفريقيا عبر الشرق الأوسط، وصولاً إلى آسيا الوسطى، مستغلة تركيز الولايات المتحدة على صراعها المفتوح مع الصين الذي اكتسى حالياً شكل حرب تجارية، وترى برلين أن لديها فرصة نتيجة عجز روسيا عن تحمّل تكاليف إعادة إعمار سورية وحدها، وجاءت الأزمة التي تعصف بالاقتصاد التركي لتعزز هذا التوجه، ولكن يبدو أن طموحات ألمانيا تراعي الواقع على الأرض الذي منح روسيا موقعاً متميزاً، كما أن الصين وعدت بالمشاركة في عملية إعادة الإعمار، ومن المرجح أن يكون لها الدور الأكبر نظراً لوضعها الاقتصادي الممتاز.
إن طموحات برلين للعب دور سياسي في منطقتنا ليس بالأمر الجديد، بل يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وتجلى بشكل واضح في زيارة الامبراطور غليوم الثاني لأراضي الدولة العثمانية في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني من عام 1898، وشملت زيارته اسطنبول، والقدس، ودمشق، وبيروت، ولم ينقطع اهتمام برلين بالمنطقة أبداً، وضمن هذا الإطار شهد عام 1939 تأسيس أول إذاعة عربية في أوروبا هي إذاعة برلين العربية التي أشرف عليها مغامر إشكالي هو الإعلامي العراقي يونس البحري الذي تمتع بشعبية واسعة في العالم العربي، وكان لديه جمهور واسع من المتابعين، وبعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا قامت حكومة ألمانيا الغربية بدفع مبالغ ضخمة إلى “إسرائيل” وفق اتفاقية لوكسمبورغ التي وقعت في العاشر من أيلول 1952، وجرى التفاوض حول التعويض المالي لضحايا القمع الألماني لليهود، ويتضمن الأمر مفارقتين غريبتين، أولهما أن الاضطهاد النازي انصب في البداية على الشيوعيين والاشتراكيين الألمان الذين كان قد مضى عليهم عشرة أعوام في معسكرات التجميع قبل وصول أول يهودي إلى تلك المعسكرات على خلفية انتمائه الديني، دون أن ننسى ما تعرّض له الغجر والسلاف والبولونيون والروس من اضطهاد، أما المفارقة الثانية فكانت دفع تلك التعويضات إلى حكومة دولة لم تكن قائمة وقت وقوع تلك الأحداث، وليست لها علاقة باليهود الذين تم تحريرهم من معسكرات التجميع النازية، ولم يقف الأمر عند حدود الدعم المالي، بل شمل الدعم العسكري، فخلال الفترة ما بين 1960 و1970 كانت ألمانيا ثاني أكبر مصدر للأسلحة إلى “إسرائيل”.
ومع بداية الأزمة السورية تبنت برلين سياسة عدوانية صريحة ضد الدولة السورية، وحاولت استغلال قضية اللاجئين للضغط على الدولة السورية، وهي تمنع كل أصحاب طلبات اللجوء من زيارة وطنهم، ولكن تسمح لهم بالسفر إلى أي بلد آخر، وفي النهاية لا يمكن تجاهل طموحات ألمانيا للعب دور سياسي يتناسب مع مكانتها الاقتصادية، ولكن لا يمكن أن يتم هذا إلا عبر القنوات الدبلوماسية الرسمية وبالتشاور مع الدولة السورية الممثّل الوحيد للشعب السوري، وهذا هو الخيار الوحيد الذي يفتح الباب أمام دور ألماني في مرحلة ما بعد الأزمة.