ثقافةصحيفة البعث

للعبث حديث آخر

 

فشلت كل محاولاته، في التغيير من مجرى الأحداث ولو قيد أنملة، فهي تمشي بسرعة الضوء نحو الكآبة واللاجدوى من أي شيء، وحده حظه العاثر لم تهزه أي ريح..!

قرر أن يجرب الغناء، علّه يفلح بالعبور إلى أي ضفة جديدة، فمنذ بداية الحرب لم يغن، استجمع قواه النفسية ووقف في شرفة بيته، انتظر حدوث ازدحام منتصف الشارع، بدأ يغني مقطع (أعطني حريتي أطلق يدياااا) من أغنية الأطلال، النتائج كانت رهيبة الفشل، إخلاء شبه تام للشارع من المارة، ومن بقي أخذ يرميه بالخضار الفاسدة والكلمات القبيحة، وامرأة مسنة أخفت بمنديلها الأبيض ضحكتها الخالية من الأسنان، ورجل توعد بالصعود لكسر رقبته إن كررها مرة ثانية..

توقف عن الغناء ليس حرجاً أو خوفاً، لكنه تأكد أن الحرب ربما انتهت، لكن السلام لم يبدأ أبداً.

حاول كتابة قصيدة، دون أدنى انشغال بقافيتها أو بحرها، الناقد اعتبره خارجاً عن طاعة البيت وأهله، وأوصى بحبسه ستين يوماً على ذمة الشعر، رجل الدين قرأها من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، ثم اعتبر بلا أي شك أن زواجه باطل، القُراء أكدوا أن قوام القصيدة المترهل، من أسباب النكسات في البلاد، حزن مثل شاعر فقد كرامته في وطنه، ووعد الجميع بالتوقف عن الكتابة، حرصاً على الثروة الحيوانية والحراجية في المنطقة.

استحلف المخرج بالله وملائكته، أن يسند له دوراً ثانويا في فيلم، وأنه صبور وطيب ولا يريد سوى فرصة واحدة للخلود، فاختار له مشهداً لمعتقل سياسي يموت عطشا في سجن تحت الأرض، وفعلاً مات بإتقان عجيب وغريب بدون أي إعادة تذكر، كما طلب المخرج تماماً، ثم عاد للحياة بعد انتهاء المشهد، ومشى مثل الناس في الشارع، ولكن لم يعرفه أحد، ولم يرد أحد التحيات عليه، حتى أنه شك بأمر وجوده، فراجع الأحوال المدنية كي يتأكد بأنه مازال فعلاً على قيد الشقاء.

أتيح له أن يقف على خشبة المسرح، ليقول كلمتين اثنتين لا أكثر، كانت مسرحية عن قصة حب حارة، العاشقان بينهما أمور مستحيلة، بالغ المؤلف في تعقيدها، كان يعتقد أن النهاية ستكون سعادتها عربية كالعادة، وأن العاشق الفقير سيتزوج أخيراً من ابنة العز والنسب، وسيذهب أبوها النافذ إلى بيته العشوائي وتسدل الستارة قبل إتمام القبلة، ولكن لم يحدث هذا وانتهى الفصل الأخير على نحو تعيس بانتحار العاشق من تلّة صممت خصيصا لهذا الغرض، وقد نسي أن يخبرنا بأن دوره كان، أحد المارة الذي سأله العاشق عن الوقت، فأجابه (على ما أعتقد الوقت ليلاً)

لا مكان له في هذا الزحام، لم يستطع قول كلمة أو كلمتين، أو أن يقذف بكل الكلام الذي يعيق دخول الهواء لرئتيه.

جرب الغناء ضحك المارة عليه، حاول كتابة قصيدة فصار سبب ملوحة التربة، دخل الفيلم فمات من العطش، صعد المسرح ليصرخ، فكان مشهد صامت للأبد.

ها هو يجلس على رصيف مكسور كقلبه، بصحبة موجة وشط، بشعر كثيف أبيض، يحدق بهؤلاء الذين يمرون أمامه، ويرمون له قطعة معدنية من النقود، حيث يمنعهم الاشمئزاز من النظر إليه.

أنتم أيها الأسوياء غير المكتئبين، الذين لم تحاولوا صعود المسرح، لتمتهنوا فيما بعد الفقر والشقاء..!

لينا أحمد نبيعة