يا هُما لالي!؟
د. نهلة عيسى
بما أن الدولار مصر على البقاء رغم النصر.. في العلالي, والذهب غالي, والبصل والبطاطا والبندورة والمكدوس والدواء والثياب والمدارس والملاعب والسجائر والهواء, سعرهم فوق العالي, وأمريكا تلعب في منطقتنا دور “الوالي”, قررت على طريقة بديع الزمان الهمذاني, ومقاماته الشهيرة، تذكير من فينا ذهنهم خال, حيث لا يليق بمن يحتاجون للتذكير, سوى مقام السخرية المرة, وهم من يساعدون “بنسيانهم والأصح عدم كفاءتهم” على قتلنا, ثم يطالبوننا بجدية, بإبداء الجدية في الموت!
تذكيرهم, إن كانوا لا يتذكرون, كيف صبرنا حتى ثمالة الثمالة, عندما اشتعلت بيوتنا بالحرائق, وقلوبنا بالوجع, وحاراتنا وأزقتنا بالقذائف والصواريخ, وسط مزيج هجين من الحقد والكراهية, ووجوه غريبة نمت كالطحالب على عرائش ياسميننا, وأفاريز نوافذنا, وشقوق النور إلى عقولنا وقلوبنا, وكيف صمدنا كالطود بعد اتخاذ القرار بتحويلنا إلى ذبيحة منذورة للعدم, وسط إجماع عربي ودولي غير مسبوق تاريخياً, حوّلنا إلى مجرد غرفة غاز نختنق في جحيمها, بينما يتفرج العالم بأسره وهو يقزقز اللب على موتنا على شاشات التلفاز!.
تذكيرهم, أننا تجلدنا وصابرنا, ليقيننا أن مايحدث لنا, مآله رغم كل الخراب إلى النصر, وكان يقيننا صحيحاً إلى حد كبير, ليس براعة منا, ولا موهبة زرقاء اليمامة, ولكن بسبب إصرارنا على تحدي العيش في ليل التخلي شبه المطلق عنا, ومهارة البقاء وعلى الظهر شاهدة قبر, كخيار وحيد وسط الجحيم الذي سموه ربيعاً عربيا!.
كان يقيننا واقعياً, ولكن ما لم يكن واقعياً هو ما يفعله من يقع على عاتقهم واجب إدارة شؤون عيشنا, والأصح أيضاً صبرنا في ظل الحرب وتبعاتها, وذلك لأن معظم ما يفعلونه يشي بأنهم لا يدرون بالحرب, وإذا دروا يحملوننا أسبابها وليس فقط أعباءها, ويجعلون قراراتهم الذابحة لنا من الوريد إلى الوريد, تبدو وكأنها سياحة في روزنامة الإصلاح ومكافحة الفساد, وفي الحقيقة هي مجرد فرمانات مرتجلة الصنع, نهايتها ستقود إلى وقوفهم فوق جثثنا “والكاميرات ترصد ملامح شجن تخفي الفرح”, لتلاوة صلاة الشكر.. أنهم قد كافحونا!؟
كان يقيننا صادقاً أننا سننتصر, ولكن من يديرون لعبة عيشنا يحولون نصرنا إلى مسدسات تطال رؤوسنا بدون حياء “كاتم الصوت”, ونحن نعافر الخطى على وقع نشاز خطبهم الرنانة, التي تتحول إلى صديد في آذاننا, وإلى هوان في بيوتنا, وإلى شعارات نغطي بها جثامين أصوات أطفالنا وهي تطالبنا ببعض من أدنى مقومات العيش الكريم!.
يقيننا كان صائباً, ولذلك دفعنا تكاليف الحرب علينا, ووقفنا, بل واستشهدنا في ساحات دمشق وريفها وحمص وحلب واللاذقية ودير الزور والرقة ودرعا وادلب والحسكة وطرطوس وتدمر الجريحة كل يوم من أيام السنوات التي قاربت الثمان, لأننا آمنا أن ذلك بروفة أخيرة لعرضنا العسكري والوطني في احتفال نصرنا القادم, لكننا لم نكن ندرك أن تعاطي الخطابات النارية حول الوطن ممن يرون الوطن “دار مختار”, يشبه الطبيخ الفاسد, تناوله نهايته طوفان من النار يشب في الجوف ويحرق كل أمل, ويجعل الراعي قاتلاً, ويعلق القاضي على المشنقة, ويعلن الشهود قتلى رصاص طائش!
صبرنا.. بروفة أخيرة لعرضٍ قريب, مرسوم له أن يكون كبيراً, وصوت طائراتنا وهي تهدر في شمال الوطن الحزين, هو لساننا الساخر المهدد, والممدود في وجه إسرائيل ووجوه صبيانها في عواصمهم, وعلى عروشهم, أن يومهم قريب, وأن كل أموالهم وكراماتهم المهدورة طوعاً على أعتاب الغزاة وحُماتهم, لن تحمي رؤوسهم بعد عروشهم من الدخول في (روليت) القضم الممنهج لجغرافيا, كانت دوماً أعظم من ساكنيها, جغرافيا احتلها العدو بحكام القهر, والنهش والسمسرة, قبل أن يحتلوها بالبارود والنار.
صبرنا صادق.. ولكن من يديروننا في الوطن, يجعلون من حالنا ما بعد النصر أشبه باستبدال طاقم الثعالب القديم بطاقم جديد, يرث طواقم أسنان الثعالب الهرمة, ويجيد السمسرة في جسد الوطن لمن يبيع, ويقدم المزيد من دمائنا عربون ارتهان لسادة تجار الحرب, فهل ياترى ستكون هديتنا بعد الصبر العيش في “ضيعة ضايعة” بانتظار قدوم يا “هُما لالي”!؟.