لعبة المفارقات
إنّها الحرب يا صديقي.. لم أتشبّه يوماً بالذّئب، لكنّني حملتُ اسماً من أسمائه “الأوس” والغريب أنّني حين أقلّب الأمر في سريرتي، لا أجد أيّ ضغينةٍ تجاه هذا الكائن، الذي كثيراً ما أظنّه نبيلاً! مع أنّه لم يكن لي يدٌ مثلكَ يا صديقي في التّسمية، فهل تختار لون عينيك، أو انتماءك أو دينك أو ولادتك بمصادفةٍ عجيبةٍ على غفلةٍ من الطّمأنينة الكونيّة في بيئةٍ دون الأخرى أو..؟ دعني أشكّ في ذلك قليلاً. هي قرارات الآباء ببساطة. ما الذي تستطيع فعله حين يقرّرون بمختلف تجلياتهم البطريركية شكلَ جيناتك المستقبليّة وأفكاركَ وما ستسير عليه حتّى في منامك، على الأقل في سنواتك الستّ الأولى؟!. قديماً قيل في البدء كانت الكلمة وهناك من قال كانت اسماً! المهمّ أنّ اسمي قد أعجبني حين كبرتُ، ومع ذلك فضّلتُ الصّفة عليه أكثر، أقصدُ، صفة “العطاء” وهي من معانيه. هكذا جمّلتُ ذئبيّتي وموّهتها بمهارة صيّادٍ “يعفُّ عند المغنم” كما يُقال. لكن تاريخيّاً نجد أنّ الأسماء تمارس الكثير من السطوة على ثقافتنا، فنربطُ الاسم بالمسمّى ونشهره عالياً، كقاعدة عرفيّة وكلّنا قناعة بأنّ “لكلٍّ من اسمه نصيب”. ألا ترى بأنّنا نمنطقُ العلاقة هكذا فيما بعد، بين طرفي المعادلة لنعتادها وحسب؟. فتصبح تدريجيّاً جزءاً من وعينا النّقلي، ولا وعينا الجمعي. نتشرّبها كماءٍ فراتٍ دون “فلترة”، مثلها مثل الكثير من القناعات العرفيّة التي جرّفتْ بشفراتها الحادّة تربة داخلنا، وزرعت مقدّسات كثيرة وهي ليست بالمقدّسات. ثمّ أليس أغلب إيماننا بالمقدّس عموماً، هو إيمان سطحيّ لا نخضعه للعقل، يتكوّم كالشّحم الفاسد في أذهاننا على شكل مسلّمات جميلة الشتول، لكنّها لا تُزهر إلّا بالعقم. ألم تحقن تلك الأوثان الفكريّة والماديّة، الكثير من هرموناتها في دمنا وجيناتنا حتى الآن لدرجة أنّنا أصبحنا أشبه بأصنام وقعتْ في حبّ ذاتها وظلالها وتقديس ثقافتها النّمطيّة المكرورة، بلا قدرة أو نيّةٍ على الفكاك من الأسر؟. يُقال هي الحرب من لوّثتنا بهذا الهذيان يا صديقي، ففيها يحدث كلّ شيء. تجفّ واحات الخضرة داخل الكائن وتبور، ويرعى التّصحّر كامل أعشاب الرّوح. والآن دعني أسرد على مسامعكَ الحادثة التي ساقتْ الكلام بهذا الاتجاه، وهي التي شاهدتها بأمّ العين دون أن ينبسَ الأنسيُّ في داخلي ببنتِ شفة:
فجأة صرخت الصبيّة الجميلة بأعلى قامةٍ في صوتها “حرامي، حرامي” مما أزعج المعتصم في قبره وهو الذي احتكر فعل النّجدة “وا معتصمااااه” على مرّ هذا التاريخ المشوب بالقلق، ولحسن حظّ الضّحيّة أنّها نسيتْ اسم قبيلتها وإلّا لكانت صرخت “وا أذلاه لتغلب” وحينها ستحلّ الطامة الكبرى. تجمّع حشدٌ كبير من الذكور بملامح “بطوليّة” وشوارب مقرونة ومسدسات مموّهة تنتظر حجّةً للظهور، مع سربٍ قليل من حمامات الجنس اللطيف أيضاً وقد تعاطفَن مع الصرخة الأنثويّة. تعلّقتْ نظرات الحشد المترقبُ كلّها بنفس اللّحظة بالسّبابة الأنيقة لتلك الصبيّة، وهي تنطلق كالسّهم صوب “المجرم الخطير” الذي لم يسعفه الازدحام بالفرار بعيداً. لينطلق شابّ بعضلات وافرة، وذقنٍ مشذّبة بلون بوطٍه الأمريكيّ الأسود الأنيق صوب الهارب الذي لم يكن سوى متسوّلٍ صغير بملامح مرتعبة جائعة، أمسك به بعنفٍ من رأسه ودفعه نحو الجدار منتزعاً منه الحقيبة الأنثويّة المعطرة بألوان قوس قزح، ثمّ اتّجه “بطلُ المأثرة التاريخيّة” شامخاً على وقع موسيقا صاخبة لا مرئيّة نحو الصبيّة المرتعشة لا من الخوف، بل من توقّع خراب كحلتها وسيلانها على خدّيها الأسيلين. أخذت حقيبتها من يده دون أن تشكره، ثمّ بصقت بتشفٍّ على كائنٍ ما. تابع الحشدُ مسيره وكأنّ شيئاً لم يكن، واكتفيتُ بدوري بمراقبة خيط الدم النافر من رأس ذاك الصّغير المشلوح على قارعة النسيان، وقد اعوجّ على شكل إشارة استفهام كبيرة لطّخت وجه وضمير المدينة الحمقاء. هل صدّقتَ الآن بأنّ ثمّة ذئاب تغفو تحت أدمة جلودنا؟. واساني أحد أصدقائي قائلاً ببداهة يُحسد عليها: إنّها الحرب يا صديقي! الأغرب أنّني اقتنعت بحجّته.
أحنّ إلى خبز أمّي
ليس الشاعر “محمود درويش” وحده من يحنّ لأمّه بالتّأكيد، بل كلّنا وخصوصاً، وقت الملمّات. نلجأ لاستحضارُ دفئها الأزلي ليكون ملاذاً لنا نستحمّ بطهره. تلك القصيدة التي قالها شاعرنا في حالة استيحاش، وهو وراء القضبان الصهيونيّة 1965م ،غدتْ بعد تلحين مرسيل خليفة لها على كلّ لسان، أقلّه عند أبناء جيلنا. ولكن عشقه لـ “ريتا” الذي لم يقلّ قوّة عن حبّه لأمّه، وقد أوصلته ألحان “مرسيل” إلى كلّ قلبٍ أيضاً، لم يجرؤ على إشهار قصّته، بل تركها سجينة قفصه الصدري يستأنس بها وحيداً حتى وفاته، حيث عُرف سرّه من وصيّته التي أذنَ بفتحها بعد موته بخمس سنوات. ترى لو عرفَ المحبّون المتزمّتون حينها بأنّها “يهوديّة” وأنّها عشقه الأجمل ربّما، هل كان رصيد درويش الكبير سيكون بنفس الحجم، أم أنّ ذاكرتنا الثّأريّة لن تغفر له هفوته الجميلة تلك؟ أم أنّ الحبّ يملك جواز سفر عابر للأديان والمذاهب والجغرافيا السياسة، بعيداً عن رماح القبيلة؟!.
ربّ رمية من غير رامٍ
للسياسة فكاهتها أيضاً حين تجري رياحها بما لا تشتهي السفن، بل بما لا يشتهي الملّاح أيضاً؟ حيث ما زالتْ الاتهامات تلاحق الرئيس الأمريكي المتعجرف “ترامب” بأنّه لم يكن لينتصر على غريمته الجميلة “هيلاري” بالضّربة القاضية، لولا تدخّل أذرع الرجل القوي “بوتين” المخابراتيّة في النّتائج التي أوصلته إلى سدّة الحكم، وهاهو طيلة فترته هذه على مدى أكثر من عام ونصف ما زال يحاول درء الشّبهة عنه، تارة بالعقوبات على روسيا وتارة بتأييد نظرية تسميمها للجواسيس، أمّا على المقلب الآخر من القضيّة، فثمّة روسيا عظيمة أخرى تنهض مرمّمةً نفسها من جديد، لتغدو رقماً صعباً لا يساهم فقط في صدّ الهجوم الشّرس عليها، بل وفي إعادة التّوازن لدفة السلم العالمي أيضاً ليغدو متعدّد الأقطاب، كما يقول بعض المتنبئين.
أوس أحمد أسعد