ثقافةصحيفة البعث

جسور الجمال بين الشعر والتشكيل

 

الرسم بالكلمات ليس فقط نطق ومدلول وإنما شكل من أشكال الإبداع والجمال، وتميز الحروف العربية بلغتها الجمالية العالمية أمر لا يمكن أن ينكره أحد والكل  يستطيع أن يحس بها وكأنها موسيقى تطرب كل من يشاهدها. وفي لقاء”شآم وقلم”  الذي يشرف عليه محمد الحوراني ويقدمه أيهم الحوري بعنوان “جسور الجمال بين الشعر والتشكيل” طرح بداية د.محمد غنوم مداخلة بعنوان “التشكيل بالحروف والكلمات” تساؤلات عدة حيث قال:

كلما تعمقنا في الحروف العربية أدركنا اكتشافات جمالية جديدة، وعندما نتعامل بحميمية وحب مع الأحرف فإننا نحصل على صورة إبداعية جميلة، لأن الجمال غير محدود في حرفنا العربي مهما بلغت التشكيلات والتكوينات بالإضافة إلى أن الأجمل لم نشاهده بعد، والسؤال هل هناك ترابط بين شكل الحرف ومدلوله ونطقه؟ وهل الحرف العربي هو فقط للناطقين بلغة الضاد؟، وهل يتمتع به العالم كما نتمتع نحن العرب به؟ ويضيف غنوم: اختصار الحرف العربي لغة جمالية عالمية يستطيع كل مشاهد أن يحس به، وهناك مدارس خطية وصلت إلى عدم إمكانية صناعة الجديد للحرف العربي، ولكن على أرض الحقيقة هذا الفن هو نتاج بشري ومعنى ذلك أنه لن يتوقف على الإطلاق عن التطور، ومن خلال هذا اللقاء أريد أن أسرد فكرة هامة هي أن الخط العربي هو الأنقى بين الفنون البصرية العربية، لأنه أعطى الكثير ولم يأخذ إلا القليل، وهو جزء من جماليتنا وثقافتنا التي تقوم على فلسفة تجريدية عربية ونحن في أعماق فلسفتنا نميل إلى التجريد للخط العربي فهو هويتنا البصرية التي نعتز بها في كل أصقاع الأرض.

ويتابع الفنان غنوم: كُتب الحرف العربي عبر مسيرته باللونين الأبيض والأسود إلا أنه من خلال تجربتي للألوان الأخرى أخذ جمالية أيضاً فعندما أغمس الريشة  وأتشبع بالألوان تظهر اللوحة بمظهر جديد يحمل عرساً من البهجة والسرور وكأنني أغوص في بحر من الألوان وأصعد منتشياً أحمل كل ألوان الطيف والوطن وأظهر بها فوق سطح الماء.

أدوار متبادلة

وفي تبادل الأدوار بين النص الشعري واللوحة التشكيلية قدمت د. زينب حسين مجموعة من القصائد الشعرية كتبت للوحات بعض الفنانين التشكيليين، ومن بينها قصيدة قالت فيها:

“وصيفك لفحُه عنّى/ وأضنى ألم يلمسك ليلي أو نهاري/ يلوّح في فمي ويديّ كرماً/  وعهداً بالقطاف وجني غار/أتسمع ضجتي، كرمي تولى/ وجنح التوق من بردٍ ونار/  إليكم حجتي ويداي منها/ ودائرة المحاجر في السوار/ ضنين الماء روى كل جنح/ وما ابتلت بخفق الصب داري/ تقيد النار منكم كل غمر/ ولا غمر يلوح بلا استعار/ وسفر الخل أعيا كل نبض/ وسفر النأي ران ولم يدار”.

كلمات وألوان

وتحت عنوان “شعراء وتشكيليون ينظمون بالألوان ويرسمون بالكلمات” قال الأستاذ محمد منذر زريق:

يقول نزار قباني “كل الدروب أمامنا مسدودة، وعزاؤنا بالرسم بالكلمات” ولعل العلاقة بين الكلمة وخاصة الكلمة الشعرية والرسم كانت علاقة توءمة دائماً، وهذا ما نلاحظه بين العديد من الشعراء والفنانين التشكيليين في العالم، فالشاعر بودلير تأثر بالفنان دولاكروا والفنان أبولينير تأثر بالشاعر رامبو، وتأثر الأديب الفرنسي إميل زولا بالفنان سيزان ورينيه، كما أن الكثير من الفنانين التشكيليين كتبوا الشعر كما قام كثير من الشعراء بالرسم مثل ويليام بليك وماكس جاكوب وبيكاسو وجبران خليل جبران وطاغور، وفي سورية جورج عشي وأدونيس وحسين حمزة وفاتح المدرس.

ومن يتعمق في الشعر سيجد أن أجمله ما كان مشبعاً بالصور، فالصورة الشعرية التي تعادل الرسم بالكلمة هي ما يبقى من الشعر عندما تتم ترجمته، في حين تتبخر البلاغة والموسيقى والزخارف والقوافي، ولذلك نستمتع نحن بشعر طاغور ورامبو وحافظ الشيرازي رغم أن أشعارهم وصلتنا بغير اللغة التي كتبوا بها، لأن الصورة بالشعر هي لغة عالمية تشبه الموسيقى والفن التشكيلي.

وفي سورية كان نزار قباني أجمل شاعر برع بالرسم بالكلمات، ولذلك كان ملهماً للكثير من الفنانين التشكيليين الذين رسموا من بوح قصائده عشرات اللوحات، بل إن بعضهم أقام معارض كاملة من وحي شعره كالفنانون وضاح السيد وأيمن الدقر وإسماعيل نصرة، وقد قدم كل منهما نزاراً بأسلوب مختلف تماماً، فأيمن الدقر كان يقف أمام القصيدة وقفة الند للند والصديق المحب أمام صديقه الكبير، لا ينحني أمام النص ولا يتعالى عليه بل يعيد صياغته بحب وذكاء وثقافة عالية وبراعة في كل التفاصيل، وهذا ما نلاحظه في لوحاته التي تصور أبياتاً من القصيدة الدمشقية.

بينما كان إسماعيل نصرة ذائباً في عوالم نزار لشدة الشبه بين لوحاته وشعر نزار حتى يخيل إلينا بأن كل لوحات إسماعيل نزارية الهوى، وكثيرون من فنانينا استلهموا لوحاتهم من الشعر كالفنان إلياس زيات الذي استلهم من شعر جبران لوحات عديدة، والفنان نذير نبعة الذي أعاد كتابة الكثير من شعر محمود درويش وسميح القاسم وغيرهم باللون والخط. وحتى الفنانون الذين أرادوا الابتعاد باللوحة عن الأدب والشعر كما صرح بذلك الفنان فاتح المدرس وغيره في البيان الشهير الذي صدر في ربيع 1962 إتباعا لفكر الفنان سيزان الذي نادى برفض الفكر الأدبي باللوحة، نرى أنهم لم يستطيعوا دائماً الخروج من فضاءات الشعر فكانت العلاقة الرائعة بين أدونيس والمدرس نموذجاً لعلاقة الشعر بالفن التشكيلي.

وبالنسبة لي شخصياً -يضيف زريق- فإن مجموعتي الشعرية “بوح عاشق وحبق” كانت تجربة فريدة لأن أكثر قصائد المجموعة من وحي الفن التشكيلي السوري، وقد أثرت قصائدي في العديد من الفنانين السوريين الذين رسموا من وحيها فكانت تجربة فريدة من التأثر والتأثير المتبادلين بين الشعر والفن التشكيلي.

جمان بركات