دراساتصحيفة البعث

الإعلام كقوة ناعمة في الأزمات

 

علي حسين عبيد

أديب وإعلامي من العراق

تستحثّ الأزمات عقول الناس وتحركها، وتستفزّ أفكارهم، فتصدر منهم ردود أفعال متباينة، تبعاً لرؤية الإنسان ووعيه وثقافته وميوله الفكرية أو سواها، وأمر طبيعي أن الأزمة السياسية أو الاقتصادية أو الصحية، أو في أي مجال يهمّ حاضر الناس ومستقبلهم، تثير ردود أفعال بمستويات مختلفة من الحدّة. في السابق كانت ردود الأفعال محكومة بوسائل اتصال غير مطلقة، كما هي الحال مع وسائل التواصل الاجتماعي، فالجميع صار له القدرة على إعلان رأيه الرافض أو المؤيّد أو الحيادي حيال هذه القضية أو تلك، أما سابقاً فلم تكن هناك فرصة مفتوحة لإعلان الرأي إلا عبر التظاهر أو الاعتصام، وهو مقصور على الأنظمة الديمقراطية.

أما في البلدان ذات الأنظمة السياسية غير الديمقراطية، فلا توجد أية فرصة لبلورة رأي عام حيال هذه الأزمة أو تلك، ولا تزال بعض الأنظمة الفردية تحرم شعوبها من حرية الرأي، حتى مع الانفتاح على العالم عبر “الفيس بوك” ومواقع التواصل الأخرى، وقد تسلّلت القوة والإكراه الحكومي إلى وسائل التواصل، وصارت الأنظمة تتعقّب الناشطين عبر سنّ مجموعة من القوانين التي تحدّ من حرية الرأي، ولدينا نماذج من الدول التي تحكمها أنظمة مستبدة، طالت قبضتها القضائية المسيَّرة عدداً لا يستهان به من المغرّدين والمعبّرين عن آرائهم في وسائل التواصل الاجتماعي، بعضهم نال حكماً قاسياً وصل حدّ الإعدام، وثمّة الكثير من الأحكام تراوحت بين السجن لمدد طويلة وقصيرة ومتوسطة.

في العراق هناك هامش من الحرية في وسائل التواصل المتعددة، حيث يعبّر الناس عن آرائهم في القضايا السياسية والاجتماعية والحياتية المتنوعة دون تردّد، ولكن هذا لا يعني عدم وجود مقاضاة لبعضهم، حيث مادة القذف والتشهير تقف شاهرة نفسها كالرمح في صدور المغردين والمعبّرين عن آرائهم، ولكن حتى نكون منصفين، لا تزال قبضة القضاء أقل قسوة في العراق من سواها في بلدان إقليمية ودولية عدة.

فاعلية قوة الضغط الإعلامي

وفي كل قضية تُثار بين وقت وآخر، وتمسّ حياة الناس، سرعان ما تشتعل وسائل التواصل الاجتماعي، ولاسيما موقع “الفيس بوك” بموجة من ردود الفعل المتباينة، بيد أن هذه الآراء تتأرجح بين التأثير وعدمه، ما يعني ذهاب الجهد الجمعي سدى، وهي خسارة لقوة ضاغطة يمكن أن تكون أداة لمعالجة هذه الأزمة أو تلك، خصوصاً أن مستخدمي هذه المواقع من العراقيين صاروا يناقشون كل صغيرة وكبيرة، ويعلنون رفضهم أو تأييدهم وبعضهم يطرح مقترحات وحلولاً قد يكون بعضها مهمّاً بحسب مؤهلات وتخصّص صاحب الرأي.

مؤخراً عايشنا عدداً من الأزمات أو القضايا التي تمسّ حياة عامة الناس، منها على سبيل المثال الانتخابات النيابية التي جرت قبل أسابيع، وكلنا اطلعنا على حملة مقاطعة الانتخابات، يقابلهم ناخبون مصرّون على الانتخاب، وكانت ساحة التنافس بين الفريقين، وسائل التواصل، خصوصاً “الفيس بوك” الذي يستخدمه معظم العراقيين، وقد أثر هذا الاستخدام على مواقف الناخبين، لدرجة أن عدداً من أصحاب المقاطعة تراجعوا عن موقفهم لصالح المشاركة، وحدث العكس أيضاً حين انتقلت مجاميع من المؤيدين إلى رافضين للمشاركة في الاقتراع المذكور.

اليوم نعيش أزمة سد “إليسو” التركي، حيث بدأت السلطات التركية ملء خزانات هذا السد في مطلع حزيران، ما أثّر على مناسيب المياه في نهر دجلة، وجفّت الكثير من الأراضي الزراعية، ما أثار موجة من السخط والقلق لدى عامة العراقيين، وظهر هذا السخط والقلق جلياً في مواقع التواصل الاجتماعي، بالأخص في موقع “الفيس بوك”، ولكن من خلال رصد ومتابعة لموجة ردود الأفعال، يمكننا أن نستشفّ بعض الأمور المهمّة التي تتعلق ببلورة رأي إعلامي ضاغط أو ضعيف من خلال فعاليات ونشاطات العراقيين من عامة الناس حيال أزمة المياه.

لقد امتلأت صفحات العراقيين بفيديوهات وصور تظهر الانخفاض الكبير لمنسوب المياه في نهر دجلة، وأفلام أخرى أظهر جفاف أراضٍ وبساتين كثيرة، وهناك أنهر فرعية لكنها مهمّة جفّت بشكل تام، فأدى ذلك إلى حرمان عائلات فلاحية كثيرة من مصدر رزقها، وأدى ذلك إلى هجرة ذات طابع جماعي من الريف إلى المدينة بسبب قلة أو انعدام ماء الإرواء والسقي وحتى مياه الشرب، وقد رافق ذلك موجات هائلة من التعليقات والآراء التي ترفض هذا الإجراء التركي الخطير، ولكن ما مدى تأثير هذه الموجة العارمة من الرأي شبه العام كقوة ضغط، وأين يكمن الخلل فيها؟.

وسائل التواصل وبلورة الرأي العام

إن الآراء المعلنة في “الفيس بوك” حيال سد “إليسو” وأزمة المياه، يمكن أن تدخل ضمن القوى الضاغطة، وقد يكون لها تأثير في مراجعة تركيا لقرارها، كما أن الرأي العام ربما شكّل ضغطاً على الدبلوماسية العراقية، ودفع بالحكومة لاتخاذ بعض القرارات العاجلة، لكن ثمّة خللاً في بلورة رأي عام عبر وسائل التواصل، فما هو، وهل يمكن معالجته مستقبلاً ليكون أكثر تأثيراً ونجاحاً كقوة ضاغطة لتغيير السياسات والقرارات الخارجية والداخلية؟.

إن الخلل في تكون قوة الضغط للرأي العام، يكمن في غياب التنظيم وعدم الانضواء في فعل جمعي منظّم ضمن جماعات أو مؤسسات إعلامية أو ثقافية أو حقوقية أو سواها، وجاءت التغريدات والتعليقات متناثرة هنا وهناك، لا يجمعها جامع، مما أضعف تأثيرها بدرجة كبيرة، ولو كانت هناك آليات تنظيمية لموجة الاعتراض والاحتجاج والرفض، لكان التأثير الإعلامي أكثر جدوى بكثير مما تحقّق بصيغة التغريد أو التعليق الفردي.

لقد شاركت أعداد كبيرة في متابعة أزمة المياه، وهذا أمر متوقّع وطبيعي، لأن الأزمة تتعلق بحياة العراقيين، آنيّاً ومستقبلياً، ولو أن ردود الأفعال لم تدخل في إطار ردّ الفعل العشوائي، وتوجهات القطيع وحماسهم غير المنظّم، لكان تأثير الضغط الشعبي أكثر جدوى، ومما لوحظ في هذا الجانب، أن الجميع اعترض لكنه لم يقدم حلولاً، كذلك لم يعلن أحدهم مسؤولية المواطن العراقي في هذه الأزمة، وهو الذي كان ولا يزال يتعامل مع الماء بإفراط وتفريط ظاهر بقوة، لذلك جاءت عشوائية الرأي العام عبر “الفيس بوك”، كردة فعل سطحية عصبية خالية من الرؤية الصحيحة لمعالجة الأزمة إلا ما ندر.

ولو كانت هنالك أساليب منظّمة للرأي حيال قضية سد “إليسو” وأزمة الماء، لكان الأمر مختلفاً تماماً، وفي كل الأحوال لا يمكن لعشوائية الاحتجاج والرفض أن تشكّل قوة ضاغطة مؤثرة على القرار السياسي، لهذا مطلوب حاضراً ومستقبلاً الاستفادة من قوة الضغط للرأي الشعبي والإعلامي الذي ينشط في وسائل التواصل الاجتماعي، سوف يتمّ ذلك من خلال الابتعاد عن الاعتباطية والعبثية وحب إظهار النفس على حساب الهدف الأكبر وهو تشكّل قوة ضاغطة للرأي، قادرة على تغيير اتجاه بوصلة الأحداث والقرارات بما يخدم المواطنين الحاليين فضلاً عن الأجيال القادمة.