واسيني الأعرج
حسن حميد
لا أدري، زمنياً على الأقل، متى تعرفت إلى الروائي الجزائري واسيني الأعرج، فقد كان هنا في دمشق يدرس اللغة العربية موفداً من الجامعة الجزائرية استكمالاً لتأهيله الأكاديمي، كان مع مجموعة من الطلبة الجزائريين، ومنهم زوجته الشاعرة الجميلة زينب الأعوج، والصديقان الأديبان أمين الزاوي وربيعة الجلطي، لكن ما أدريه حقاً هو أنني عرفته حين قرأته في مدوناته السردية الأولى التي راح ينشرها، وهو لم يزل طالباً على مقاعد الدرس، وكان فيها الكثير من الدهشة والسحر الجزائريين على الرغم من أننا كنا هنا في الشام نعيش وأخبار الجزائر الثائرة حال توءمة كتوءمة الغيوم والمطر.
منذ البداية الأدبية لمشروعه الإبداعي خطَّ واسيني الأعرج دربه نحو الأدب المشتهى بالسرد الذي يغترف من قلب الحياة الجزائرية فبات، وعلى نحو مدهش، أحد رواة الحياة الجزائرية وأحد صنّاع الأحلام الجزائرية عندما شالت همته بالمعنى الجوهري الذي تبناه أهل الجزائر وفحواه: بناء الجزائر بجغرافيتها، وأحلامها، وناسها!
كنا، أنا وأبناء جيلي، مفطورين على اللقاءات، والحوارات، والتواصل مع الطلبة العرب الذين شاركونا الأنشطة الثقافية في أروقة الجامعة، والمراكز الثقافية، وكانت الحمية آنذاك موجهة للموضوع الفلسطيني امتثالاً لما أبدته مرآة الثورة الجزائرية المنتصرة باقتدار على واحدة هي من أهم البلدان التي شرعنت الاستعمار، وجمّلت الإذلال والتبعية والإلحاقية، وسعت ـ كل جهدها ـ كي يغادر أهل البلاد عشقهم لبلدانهم، وتاريخهم، وأن يطووا التفكير بالمستقبل خارج ما قالت به الإرادة الفرنسية.
كنت، وفي جلسات النقاش مثل غيري، وحين يضم مجلسنا الواسيني الأعرج، ألحظ وأعيش الحماسة الوطنية التي تحلّى بها الواسيني وهو يتحدث عن جغرافية الجزائر وتاريخها وبطولات أهلها ووقوفهم البهّار في وجه مشاريع الفرنسة التي شملت كل شيء، وأتت على كل شيء، باستثناء القلب الجزائري الذي ظلَّ يدق: الجزائر، الجزائر.
كان الواسيني، طالب الجامعة، طويلاً وعالياً، وندياً وصافياً، ويزداد طولاً وعلواً ونداوة وصفاءً كلما تحدث عن الجزائر التي عشقها مثلما عشقناها ونحن تلاميذ في المرحلة الابتدائية حين كنا نردد في عقد الستينيات من القرن العشرين الفارط نشيد الجزائر: قسماً بالنازلات الماحقات، قد عقدنا العزم أن تحيا الجزائر.
أذكر ذلك الزمن البهي، وتلك الصباحات الندية، وذلك الضوء الطالع الذي تتقلّب في فضاءاته الطيورُ الصباحيةُ المنادية: مرحباً يا صباح، حين تقف أمهاتنا الذاهبات إلى عين الماء، والرعيان الذي يقودون قطعان الماشية قرب أسوار المدرسة الوحيدة في قريتنا (نعران) من أجل أن يستمعوا للنشيد الجزائري الذي نخرجه من لهواتنا مزلزلاً.. فلا تمضي الأمهات، ولا الرعيان إلا وقد تندّت عيونهم بالدمع الوطني. كم كانت الجزائر قريبة من أرواحنا، كم كانت هي أرواحنا.
وما كنت أدري الكثير، إن كان الواسيني ورفاقه يعرفون هذا المهاد الوطني الذي عشناه على مقاعد الدرس، ما أدريه حقاً هو أنه ورفاقه كانوا في مربع الحظوة والمحبة ليس لأنهم سينشرون اللغة العربية ويدرّسونها في الجامعات والمدارس الجزائرية، وإنما لأنهم عشاق للبعد الوطني.
قرأت الأعمال الأولى من مدونة السرد التي افتتحها واسيني الأعرج فبهرني حرصه الشديد على إضاءة الحياة الجزائرية (اجتماعياً)، وإضاءة الروح الجزائرية من أجل تفعيل المحبة بالنبيل والثرى والوهّاج. وقد كان منذ البداية منادداً للأسماء الأدبية الجزائرية الكبيرة التي قرأنا أعمالها أمثال: كاتب ياسين، ومولود فرعون الذي اغتيل على يد الفرنسيين سنة 1962، ومحمد ديب، مثلما كان واسيني منادداً للروائي الطاهر وطار الذي عشقنا أدبه أيضاً!
الواسيني، كان ـ منذ بداياته ـ صاحب طموح لأن يكون الحادي الأدبي للجزائر ومرآتها، وهو الآن حاديها ومرآتها!
Hasanhamid55@yahoo.com