الحضارة.. إلى الأمام لا إلى الخلف
د. مهدي دخل الله
يتكرر مصطلح الحضارة مراراً في حديثنا اليومي وخطابنا السياسي. لكنك إن كنت في أي عاصمة من عواصم العالم المتقدم لن تجد أي استخدام لهذا المصطلح، سواء في وسائل الإعلام أو في الخطاب السياسي والثقافي بما في ذلك الفن ومنتجاته.
هناك قاعدة واضحة تقول: كلما كان المجتمع متأخراً في مسار النمو الشامل ركز خطابه اليومي على مصطلح الحضارة، وبالمقابل لاتهتم المجتمعات المتطورة بهذا المصطلح. وهذا شيء طبيعي لأن المجتمعات – كالفرد- تتغنى بما هو مفقود..
لكن التغني لايأتي من فراغ. فالمجتمعات الأقل تطوراً تستلهم مفقودها عبر النظرة إلى الخلف، إلى التاريخ العابر. وقد تصل نظرتها إلى مئات السنين.. المشكلة أن من ينظر إلى الخلف لايستطيع النظر إلى الأمام على الرغم من أن ” الأمام” أكثر أهمية من “الخلف”. ينتج عن هذا الوضع شعور عارم بالاستلاب الجمعي، حيث تفقد النفسية الاجتماعية العامة بوصلتها. فالانفصام بين حضارة غابرة وواقع يتطلب الدفع إلى الأمام يجعلنا أقل قدرة على الإبداع والابتكار.
ونحن نلاحظ اليوم أن القدرة الإبداعية الشهيرة للإنسان العربي معطلة تماماً، وهي لاتظهر إلا إذا سافر هذا الإنسان إلى بيئة أكثر تقدماً في الغرب، حيث يبهر محيطه هناك بعطائه.
إن ما يعطل الإبداع في أوطاننا العربية هو البيئة الثقافية العامة التي ماتزال تمضغ ماضيها وتعلكه فتتخدر وتغيب عن وعي الواقع، منتجة حالة من الاستلاب الشامل والمعطل..
الخروج من هذا الطوق يبدو صعباً. نشعر أحياناً أننا مازلنا موجودين بين الكنعانيين والفينيقيين وحضارات العرب العاربة والمستعربة والأمويين والعباسيين.
ولعل أحدنا يتوهم بأنه سيفتح باب بيته يوماً داعياً الفارابي وابن سينا أو علماء الدين في العصر الإسلامي الأول لتناول وجبة طعام معه.
من أخطر نتائج هذا الاستلاب أن يتوقع كل منا في قرارة نفسه بإمكانية استعادة الحضارة العربية في هذا العصر. هذا يدفعنا جميعاً إلى حظيرة وهم كبير وخطير.. في اليونان لا تجد أحداً يتوقع أو يتوهم استعادة مملكة الاسكندر ولا يفكر في ذلك أو يعمل من أجل ذلك المستحيل.. لا أحد ينتظر زيارة سقراط وأفلاطون إلى منزله، وكذلك في إيطاليا لا أحد يفكر بمجد روما وامبراطوريتها بقسميها الشرقي والغربي.. إنهم ينظرون إلى الأمام لا إلى الخلف!!.
mahdidakhlala@gmail.com