الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

سحابة مثقلة بالقلق

 

سلوى عباس

بين خفقة حزن وخفقة فرح ثمة مساحة للحلم نخربش عليها بعضاً من هواجسنا وأحلامنا.. أفكارنا وقيمنا ومبادئنا.. ترتسم الخيبات والأزمات التي نعيشها على وجوهنا عنواناً لحزن يحصرنا في إيقاع رتيب، وتجعلنا أسرى تداعيات لذاكرة موحشة سوداوية لا تختزن إلا صور الألم التي تظللنا بكآبتها.
كاد الألم الذي غصت به نبرة صوته أن يطبق على الكون وهو يحدثني عن واقعه المادي والاجتماعي المتردي، ويصف حالة القلق التي يعيشها إذا ما اتصل إلى منزله مرة وسمع صوت ابنته المريضة يرتجف على الهاتف، وكيف يرتجف قلبه معها وينسى كل ما حوله، ولا يرى إلا صورتها، تغزوه نبرة صوتها البريئة، وتنشر في لهفته حزنها، ويتلبسه الحزن تاركاً لنبات الأسى أن ينمو على وجدانه متسعاً كل أفراحه بها وحبوره عندما يسمع صوتها الحريري الحزين وهي تقول له: “أنا منيحة بابا” لكن كلامها هذا يزيد تدفق ماء القلق في روحه وتتسع بحيرات الانشغال، ولا يقوى على سماع حزنها، ولا يقوى أن يبقى بعيداً دون أن يكون قربها فيضم إلى صدره شهيقها المتعب وكل أحزانها، فهي وأخوتها جزء من روحه.. بل كلها..
حاولت أن أخفف عنه بأن يكون قوياً وأن أولاده ليسوا الوحيدين الذين دفعوا ضريبة هذه الحرب، وأن هذا حالنا جميعاً، لكن كلامي هذا زاد من غضبه ليقول لي: معك حق من يده بالماء ليس كمن يده بالنار، لكن بالله عليك أجيبيني إلى متى سيستمر هذا القهر والألم، وإلى متى سنحتمل هذا الحال، أنا لم أعد أحتمل فقد نجوت من خيانة قلبي لي في المرة الأولى، ولكن في وضع مأساوي كهذا نحسب فيه دقائق حياتنا من يضمن أن لا يغافلني قلبي بخيانة أخرى، فالوضع المعيشي إلى ترد مستمر ومتطلبات الحياة كثيرة ومرهقة، ومصيرنا مرهون بأيدي من يتاجرون بحياتنا وحياة أولادنا، ولكن بماذا يعنيهم حالنا سواء عشنا أم متنا الأمر لديهم سيان.
سكت قليلاً ثم تابع حديثه والمرارة تنضح من عباراته: أعرف أنك تعبت من حديثي، صرت أخشى على قلبي اندلاعات الحياة التي باتت تشي بانهياراتي، وصرت أرغب أن أواري حنيني كي لا يفاجئني صدى الحزن المعرّش على قلبي.
اعتذر مني على تطفله وإحراجه لي بحديث ظن أنه قد يلقى صدى لدي، ولم يمهلني حتى أجيبه إذ ودعني وأنهى حديثه، وبقيت أنا رهينة عجز أمام حالات كثيرة مشابهة أسمعها يومياً في أي مكان أذهب إليه.. فإلى متى سيبقى حياتنا كسحابة مثقلة بالقلق والخوف، ومتى سيحين الوقت ليكون هناك وقفة في وجه طغاة عشقوا استثمار الحروب وتضييق الخناق على أرواحنا، فعندما يرتفع صوتك ويرتد إليك الصدى وما من مجيب.. وعندما تقف على ضفة تنادي آخر على ضفة أخرى فتكتشف أنك تمد يدك للسراب، لأن هذا الآخر يعيش في عالم مختلف عن عالمك، تكتشف أنك شخص مفرد في حياة تحكمها غايات قد لا تمتلك مقوماتها فينفّض عنك من لا يجدون لديك ما يستفيدون منه، فتنكفئ على نفسك مهزوماً في واقع مقنّع بقيم مزيفة تسعى لتغييره علك تجد فيه مكاناً لك، فترى نفسك تنظر في مرآة متشظية لا تعكس إلا روحك التي هشمتها حياة جرجرتنا جميعاً في متاهاتها، وأفقدتنا إنسانيتنا بلهاثنا وراء لحظة هاربة من عمرنا للامساك بها، دون جدوى، فنرى أننا من العدم أتينا وإليه نعود ويدنا مطبقة على غبار.