أخبارصحيفة البعث

هل تتحرر أوروبا من الولايات المتحدة؟

 

قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطابه الأخير في باريس: “لم تعد أوروبا تعتمد على الولايات المتحدة في أمنها”، وهذا ليس بالأمر الجديد، فهو تكرار لإعلان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في أيار الماضي، فهل تسير فرنسا وألمانيا على النسق نفسه؟.
كان هناك اقتراح في حزيران الماضي، من قبل ثماني دول أوروبية، إضافة إلى المملكة المتحدة، حول إنشاء “قوة تدخل أوروبية”، وهو اقتراح لا يتسق مع التعاون المنظم الدائم وسياسات الناتو في أوروبا. في الواقع، عبّرت إيطاليا وأعضاء آخرون في الاتحاد الأوروبي عن شكوكهم في مثل هذه الخطوات، ومن الطبيعي ألا تنظر الولايات المتحدة إلى هذه المبادرة إيجابياً، إضافة إلى ذلك يجب أن نضع في اعتبارنا أن التقارب بين فرنسا وألمانيا حول القضايا الأمنية لا ينفي الاختلافات في السياسات الاقتصادية.
هناك ثلاث وجهات نظر مختلفة حول القضايا الأمنية: وجهات النظر الأوروبية والأمريكية والبنيوية العالمية.
يتمثل المنظور الأول في أن الدول الأوروبية الأقوى، فرنسا وألمانيا، بموروثها الامبراطوري، تطمح إلى إيجاد طريقة لاستقلال استراتيجي أوروبي عن الولايات المتحدة، وهذا الهدف يأتي نتيجة سياسات دونالد ترامب الجديدة، والتي تظهر ميلاً إلى تجنّب المسؤوليات الدولية للولايات المتحدة، ومن المعروف أن إدارة ترامب تحاول التقليل من التزامات الولايات المتحدة بشأن التعاون في مجال المناخ والتعددية، وقد أدى قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، وفرض حزمة جديدة من العقوبات على شركات الاتحاد الأوروبي التي تتعامل مع إيران ، إلى رفض أوروبي تضامني، وكان الانزعاج الأوروبي من الولايات المتحدة واضحاً في ألمانيا وفي سلوك فرنسا في العديد من المناسبات الرسمية، ومع ذلك لا تزال ردود فعل هذين البلدين كلامية.
تتطلع دول أوروبية أخرى – مجموعة فيسغراد وإيطاليا وآخرون – للرد على قوانين الاتحاد الأوروبي الاقتصادية والهجرة، وهي تبدي تشككاً تجاه ألمانيا وفرنسا خاصة، بسبب ما تعتقده طموح هذين البلدين إلى تحقيق أهدافهما الاستراتيجية للسيطرة على أوروبا والهيمنة عليها، وتغيير ديناميات وضعهما في عالم جديد متعدد الأقطاب.
ويمكننا بالتأكيد رؤية إعلان ماكرون الإيجابي في أوروبا مستقلة والانفتاح على روسيا لإيجاد حل الأزمة السورية، ومع ذلك لا يمكن قبول طموحات ماكرون بوضع فرنسا في طليعة عملية الإصلاح الأوروبية من قبل الكثيرين في أوروبا، ولعدة أسباب، منها نزعات فرنسا الاستعمارية في ليبيا وسورية، وتدخلها غير الشرعي في الدول ذات السيادة. علاوة على ذلك، هناك رياح جديدة في أوروبا ترفض مؤسسة أوروبية فاشلة، وماكرون جزء منها. وفي اعتقاد كثيرين، فإن صورة ماكرون كزعيم للتقدميين الأوروبيين ضد القومية المتصاعدة سوف تتلاشى قريباً.
ويقوم المنظور الثاني على حقيقة أن الولايات المتحدة هيمنت، تقليدياً، على منظمة حلف شمال الأطلسي، وحاولت جعل الفضاء الأوروبي خاضعاً لها، ولا يمكن لواشنطن أن تقبل، رغم أن من الحكمة أن تفعل ذلك، أوروبا مستقلة استراتيجياً في حقبة ترامب. علاوة على ذلك، فإن الفكرة القائلة بأن العلاقات الأوروبية الروسية يجب تعزيزها من الناحية الاستراتيجية قد تبدو أقرب إلى نهج ترامب المنفتح تجاه روسيا، ولكنها في الوقت نفسه، تشكل خطورة على موقف الناتو الصارم تجاه موسكو.
يقول ماكرون: “إن تاريخ هذه الشعوب (روسيا وتركيا) يصنع مع أوروبا. يجب أن نقبل أنه سيكون هناك أوروبا كبرى، وأكبر حتى من الاتحاد الأوروبي”، ويمكن تفسير هذا الإعلان على أنه محاولة لتطوير علاقات تعاونية جديدة والانفتاح على أطراف متعددة. لكن، مرة أخرى، يُنظر إلى هذا على أنه ضار بالخطط الجيوستراتيجية الأمريكية.
المنظور الثالث يقول: إنه وفقاً لتحليل بنيوي عالمي، فإن الديناميكيات المذكورة أعلاه متناقضة وفوضوية، وهذا ما يمكن اعتباره نتيجة لا مفر منها لتحول بنيوي أوسع نطاقاً على المستوى العالمي، فالعالم متعدد الأقطاب بزغ عملياً، وهو وجد ليبقى. وقبل كل شيء، فإن النهج الدبلوماسي والثقافي والاقتصادي المتقدم الذي تبديه مجموعة “بريكس” وغيرها من منظمات الدول الناشئة، يؤكد بوضوح أنها غير راضية عن النظام الدولي القديم الذي يقوده الغرب.
من المؤكد أن على الولايات المتحدة وأوروبا أن تتحدثا بشكل مباشر عن إصلاح ضروري للعلاقات الاستراتيجية، خارج إطار الناتو، وتبعاً للدعاوى الأوروبية بشأن الاستقلال الجديد. على سبيل المثال، ينبغي على الولايات المتحدة قبول ودعم نهج تعاوني في العلاقات الأوروبية الروسية، وعلى القوى الغربية التخلي عن التدخل العسكري، كما على أوروبا وضع وتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والسياسية على أساس المعاملة بالمثل والتعاون مع الشرق الأوسط وأفريقيا والمناطق الآسيوية، فعندما يعيش المواطنون الأوروبيون في ظل ظروف اقتصادية مختلفة، يجب على أوروبا أن تركز على أولويات غير “الأمن” و”الدفاع”.
لهذه الأسباب، من المتوقع استمرار الحركات المتناقضة داخل الفضاء الشمال – الأطلسي، وظهور نظام عالم ما بعد منظمة حلف شمال الأطلسي في الثلاثين سنة القادمة.
عناية ناصر