الاستثمار في الثقافة.. تحصين للمجتمع وربح أكيد
شهد القطاع الثقافي في سورية على تنوع فروعه استثمارا نشطا من قبل القطاع الخاص في مرحلة ما قبل الحرب على بلدنا، فبتنا في وقتها نشاهد حراكا تشكيليا نشطا وصالات عرض فاعلة ضخت مئات الملايين من الليرات في هذا القطاع، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأعمال التشكيلية وأوجد لها سوقا في الداخل والخارج كما ازداد حجم إصدارات دور النشر القديمة، مع ظهور دور نشر جديدة أثبتت وجودها سريعا في سوق الكتاب، وهذا كله فتح أسواقا جديدة للكتاب السوري مما حقق أرباحا معقولة في هذا القطاع، أضف إلى ذلك ظهور الكثير من المهرجانات الفنية الناجحة التي قدمت الحفلات الغنائية لنجوم سوريين وعرب وللعديد من الفرق الموسيقية المحلية والعربية والعالمية، مع حجز مساحة جيدة للعروض الاستعراضية الراقصة للكثير من الفرق التي كانت موجودة في وقتها، كما ظهر العديد من الفرق الموسيقية الشبابية التي باتت في حينها حالة تفاعلية تسد الطلب المتزايد للمهرجانات الفنية العديدة التي كانت تقام على كامل الخريطة السورية، وشاهدنا في تلك الفترة نشاطا مسرحيا نوعيا حيث ظهرت عدة تجمعات مسرحية إلى جانب النشاط السينمائي الذي انتعش بوجود عدة نوادٍ سينمائية أخذت تعرض أحدث الإنتاجات العالمية، وكل ذلك بشر بنوع جديد من الاستثمار بالثقافة وأعطى آفاقا لطموحات كبيرة في هذا الصدد، فانتعشت الحياة الثقافية وجنى المثقفون فوائد مادية جيدة من هذا الحراك، حيث لم تعد المؤسسات الحكومية الثقافية هي اللاعب الوحيد والمؤثر في الساحة الثقافية في حينها، ليختفي هذا الاستثمار الخاص مع سنوات الحرب ويبدأ بالعودة على استحياء في هذه الفترة.
إذا ما قمنا بنظرة بانورامية سريعة لأغلب دول العالم المتقدمة نرى أن هناك رأسمال ضخم مخصص للاستثمار في القطاع الثقافي في تلك البلدان من قبل شركات متخصصة في هذا الشأن، إلى جانب تخصيص جزء من استثمارات المجموعات الاقتصادية العملاقة للاستثمار في فروع الثقافة كنوع من المساهمة في التنمية المستدامة للمجتمع عبر الثقافة والفن مما يعود بالنفع المادي والمعنوي على كل المشتغلين في هذا القطاع الكبير بكل مكوناته المتنوعة، وهذا بالتالي ينعكس ايجابيا وبشكل مباشر على تركيبة المجتمع من خلال نشر الثقافة بين مختلف شرائح المواطنين، وإعطاء المثقفين المكانة المعنوية والاقتصادية المرموقة التي تتوافق مع دورهم كقادة رأي عام في المجتمع بما لهم من تأثير فاعل على أغلب الناس مما يضمن استقرار حركة التنمية المستدامة للمجتمع والدولة، ويحافظ بذات الوقت على العلاقة الأفقية والعامودية بين مختلف مكونات المجتمع، وهذا كله يشكل جدار وقاية ضد أي تدخل خارجي عابث باستقرار هذه البلدان حيث غالبا ما يستفيد العدو الخارجي من الخلل في التركيبة المجتمعية لأي دولة يتم تهميش المثقفين فيها، مما يوصلهم إلى أسفل السلم الاقتصادي بهذه الدولة، ليأتي العابثون والمخربون الخارجيون ويستثمروا في هذا الوضع المتردي للطبقة المثقفة ويبدؤوا بشراء ذمم من جهز نفسه للبيع منهم، وذلك لقاء مبلغ من الدولارات الوسخة ليمتلك الأعداء في وقت قصير زمام أغلب من يقع على عاتقهم قيادة الرأي العام في المجتمع والدولة ويبدؤون بعدها بتنفيذ خططهم التخريبية لكيان الدولة المخترقة من الداخل بمساعدة من اشتروا ولاءهم.
اليوم وبعد ثماني سنوات تقريبا من الحرب التي أكلت اغلب خيرات البلد وخربت منجزات عشرات الأعوام في كل المجالات، نقف في الساعات الأخيرة من هذه الكارثة لنتأمل ونرى حال الثقافة في قادم الأيام ونتساءل إن كانت خطط إعادة الإعمار بكل مجالاتها قد أخذت القطاع الثقافي في اعتباراتها، وهل وضعت الخطط الملزمة من جهة والمشجعة من جهة أخرى لكل المساهمين في هذه العملية الوطنية المعول عليها في بناء الدولة الحديثة القوية والمحصنة، خاصة ما يلزم تلك الشركات العملاقة المحلية والخارجية اللاهثة للفوز بعقود إعادة الإعمار وتفرعاتها فالتجربة المريرة من وراء هذه الحرب أوصلتنا إلى نتيجة مفادها أن لا استثمار حقيقي بعيدا عن التأثير الايجابي على الإنسان بفكره وروحه لضمان مستقبل البلد عبر خلق مجتمع مثقف وواع يعرف قيمة المعرفة والحضارة والجمال ويعلي قيم المواطنة الحقة، ويكون لقادة الرأي فيه من المثقفين الحقيقيين الحصانة المعنوية والمادية ضد أي عابث خارجي مهما بلغت دولاراته وإغراءاته.
محمد سمير طحان