جماليّة السّرد.. جمهوريّة القاع الاجتماعي
عنوان روايتنا قيد القراءة “في حضرة باب الجابية- طفل البسطة” للرّوائي السوري “أيمن الحسن” الصّادرة حديثاً 2018م عن الهيئة السّوريّة للكتاب، هو عنوان مكاني بامتياز،عتبة نصيّة موازية، رافعة شكلتْ مع روافع أخرى عمارة النصّ السّردي الذي نحاوره، واستطاعتْ وضعَ ماكينة الأحداث على السكّة الصّحيحة. إذْ تحدّدتْ من خلاله على المستوى الرّمزي أبعاد زمكانيّة وفضاءات سرديّة تخييليّة وسيعة، تقاطعت خيوط أشعّتها كلّها في محرق عدسته، ليغدو البؤرة الأساسيّة لإشعاعات النصّ المختلفة أثناء اشتغاله على نفسه. ألا تستقلّ الكتابة جسداً وروحاً عن منشئها بعد فراغه من تحبيرها على الورق كلهاثٍ أدبيٍّ طويل البوح أرّق مخيّلة الكاتب لساعاتٍ وليالٍ طوال، ثمّ آن له أن يستريح؟، هكذا جُعِلَ العنوان محورَ الأحداثَ، تلوبُ بشخصيّاتها المتعبة حوله، كمن يلوب حول نفسه في حركة دائريّة لا تحصد سوى الهباء، هائمة مسرنمة في بحر ضياعها العميق، تتلقّى مصائرها بسلبيّة عجيبة، يتحالف فيها القدر مع القوى الاجتماعيّة الظّالمة التي تتحكّم فيها بالأساس وتسحقها تحت عجلات جشعها الذي لا يعرف الشّبع، وأعرافها العتيقة البالية، وهذا ما ميّز أدب الحساسيّة الجديدة الذي تعامل مع المكان كبطل رئيسي للعمل، لا بمجرّد كونه بوتقة تتجمّع فيها الأحداث وتتفرّع، أو موقعاً جغرافيّاً لتأطير الشّخصيّات وحسب، بل تناوله كجوهر، كمحور ثابت في مواجهة مجموعة متباينة من المحاور المتغيّرة.
“باب الجابية” مكان واقعيّ لا تخييليّ تحتشد فيه القوى الأكثر تهميشاً في جمهوريّة القاع “شغّيلة الفاعل” قادمةً من كلّ بقاع الجغرافية السّوريّة. ليشكّل مرآة ضخمة تعكس هموم وقهر هذه الفئات المستضعفة وهي تحاول تحصيل لقمة عيشها المجبولة بالدّم وماء الذّكريات الموحشة والأحلام المكسورة الجناح. أبطال العمل الفنّي هم نماذج بشريّة مسحوقة نراها في أغلبِ الأماكن والأزقّة وقد أنشبَ فيها الفرز الاجتماعي الشّاقولي أنيابه ومخالبه الطويلة الحادّة، حيث ينشطرُ المجتمع لفئتين واضحتين، فئة ثريّة قليلة العدد وتملك كلّ شيء بما فيه رقاب ومصائر العباد، وفئة مسحوقة ضخمة، لا تجد من يدافع عنها، ولا وعيها يؤهّلها للمطالبة بحقوقها. كائنات عاشت في زمن ليس بعيداً عنّا، مازال يرخي بظلاله القاتمة على حاضرٍنا بقوّة، وللأسف الشّديد نجد أنّ هذه الكائنات الهامشيّة التي ينتمي إليها الكثير من النخب المثقّفة بدل أن يتقلّص حجمها مع الأيّام، نراه يزداد بشكلٍ مرعب خصوصاً، بعد أن دمّرت الحرب الحاليّة كلّ شيء. بما فيه الطبقة المتوسّطة، وشرّدت عوائل كثيرة امتلأت بهم الطرقات والأزقة والحدائق، وللمفارقة المرهقة اليوم، نرى أنّ الكائنات المشرّدة التي تزدهر بها الأمكنة، قد تنظر بعين الحسد لأولئك الأسلاف المسحوقين الذين كانوا يتجمّعون في الأمس القريب حول بسطة الشّاي في باب الجابية، لأنّ الكثير منهم لا يملك إمكانية تحقيق هذا الحلم!. لقد احتفى الكاتب بالمكان إلى درجة التّسامي والتّقديس، وتلك طريقة ربّما توسّلها وتوخّاها بهذه الرّمزيّة لخطابه السرديّ، بغية إيصال أكبر جرعة ممكنة من التّأثير على “القارئ” فمفردة “الحضرة” عادة تُطلق على الأماكن المقدّسة، أو لتشريف الأشخاص والرموز الكبيرة. لكن القدسيّة هنا لم تأتِ من غيبٍ متعالٍ، بل هي قدسيّة هدفها الإعلاء من قيمة الألم البشري التي تختزنها ذاكرة المكان، ولفت انتباه المعنيّين إلى المعاناة القاتلة التي يعيشها أولئك المهمّشون ،الذين لولا زنودهم القويّة لما قامت العمارات الشاهقة ولا القصور التي يرتع في مباهجها أصحاب السّطوة والنّفوذ كما يقول أحد سرّاد الحدث الأساسيّين. كلّ ذلك يرويه ويسجّله في ذاكرته الغضّة ودفاتره القديمة، لتاريخٍ قادم قد يكون أكثر رحمة، سارد صغير هو “طفل البسطة” الذي يمكن اعتباره ضمير المكان الحيّ. وهو أحد التّجليات المحوريّة للسّارد العليم كلّيّ المعرفة الذي حاك مصائر الشخصيّات بحرفيّة قرّبتها كثيراً من نماذج الواقع، فلمْ تبقَ مجرّد كائنات ورقيّة تنتجها مخيّلة كاتب ورغائبه، يقول الروائي “إدوار الخراط”: (يتعامل الواحد مع التّخاييل التي تغتصب لنفسها وجه الذكريات ويزوّر عن الواقع فكأنه يعاني الواقع ولكنّه لا يتناول إلا جسد الحلم).
باب الجابية هو المكان المصغّر، لمكان أكبر، هو الوطن المدمّى. الوطن الذي يحمل الكاتب همومه وهموم مهمّشيه على كامل مساحة خطابه الروائي، موسّعاً دائرة موشوره النّقديّ لتشمل مختلف فئات المتضرّرين في المجتمع، بغضّ النّظر عن طوائفه وإثنياته وجغرافيّته المتباينة. “باب الجابية” هذا المكان الصغير في قلب العاصمة، استطاع عكس المشهد الدرامي بكامل خلفيّاته الفكرية الوطنية والقومية وهواجس أبطاله البائسين وطموحاتهم بغد أفضل لا يعرفون عنه شيئاً ولا كيف سيصلوه، وقد امتازت العناوين الفرعية كما العنوان الرئيس بشاعريّة محببّة خفّفتْ من ثقل الغصّات المتتالية التي نجح الكاتب في تعميق الإحساس بها، لتحدث الفجوة المطلوبة والصّدمة الضّروريّة التي تتطلّبها عمليّة القراءة التّفاعليّة.
اللّغة والتقنيّات الأسلوبيّة
اللغة باعتبارها وعاء تُسكب فيه جميع مقادير الطّبخة الفنّيّة، وتجرّب في حفريّاتها أدوات أسلوبيّة عديدة، مهمّتها إعادة إنتاج الواقع، ما يضفي على فعل الخطاب مهمّة مزدوجة: مهمّة تمثيل الواقع لدى المتكلّم، ومهمّة إعادة تمثله لدى المستمع. فالخطاب يخلق الواقع وينظم تجربة الحدث كما يقول د. “صلاح فضل” وروايتنا هذه أعادت إنتاج الواقع السوري بأحلامه وآماله وهزائمه واحتفتْ بمهمّشيه الأكثر تضرّراً، لكنّها لم تستطع أن تهبهم سوى عبارة المغنّي الخالد “فريد الأطرش” الذي أهداه المؤّلف عمله هذا “خلّيها على الله” محاولةً أن تبثّ فيهم العزيمة، عبر إضاءتها للرموز التي شكّلت منارة لتلك الأحلام، أقصد المرحلة الناصرية التي حاولت بدورها تجاوز هزيمة 1967م، مروراً بحرب الاستنزاف وحرب تشرين 1973م التي أعادت بعض الهيبة والحضور لمشروعية الحلم العربي بإمكانية الانتصار. ولكن كيف لفاقد الشيء أن يعطيه، كيف للجائع والمهمّش والمتروك وحيداً بلا مدافع عن حقوقه وبلا وعي تنظيمي يؤطّر حركته أن يعوّل عليه؟. هكذا لجأت البنية اللغوية لتثبيت وتلصيق الزمان بالمكان عبر الشخصيات المستلبة ليبدو الزمن وكأنّه لا يدور، فرغم تبدّل أوضاع شخصياته، بقيت سلبيّة رهينة مصائرها الفجائعيّة، والخاصيّة الغنائيّة للسّرد رغم إضفائها الشاعريّة العالية على الأحداث وتعويضها بكثرة الاستشهادات الغنائيّة والشعريّة كبلسم يشفي الغليل، وتعويض لحالة عدم نضج الوعي ـ أراها قد أضعفتْ اللّحظة الدراميّة الضروريّة لتثبيت الوعي عبر الزمان والمكان. لقد كثرتْ في الرواية العربيّة الاتجاهات الغنائية التي شاعت في الفترة التي أعقبت الواقعيّة النقدية وتزامنت مع تألّق تقنيّات تيّار الوعي كما يقول د. “صلاح فضل”. تقول “فرجيينيا وولف”: (من الممكن أن نلاحظ بزوغ شكل روائي لم نعمّده باسم خاص حتى الآن، وسيكتب نثراً لكنّه يتضمّن قدراً كبيراً من خصائص الشعر، وسيكون له توهج الشعر وحميّاه بالإضافة إلى ما يعتمل في النثر، وسيكون درامياً لكنّه لن يصبح قطعة مسرحيّة، سيقرأ ولا يمثل..)، وقد استخدم الكاتب ما يشبه التقّنيّة البلاغيّة الهامّة التي يطلق عليها في النقد الغربي “أنافورا” ولا يوجد لها مقابل عربي كما يقول د. “فضل” وتتمثّل بـ “تقفية البدايات” استخدمها في نهاية الكثير من جمله وفقراته السرديّة، وهي عبارة “يا حضرة المدير” التي كان سارده الأساسي “عادل” يكرّرها موجّهاً خطابه الإعلامي إلى رئيس تحرير المجلة التي يعمل فيها” والذي أعجبَ بتقصّياته الّصحفيّة وتقاريره حول المهمّشين، هذا التّكرار للعبارة كان سيساهم أكثر بشحذ طاقة التّخييل والغنائيّة لو لم تكن مشبعة أساساً، في الرواية التي يغلب عليها طابع السيرة الذاتيّة، وكأنّها انعكاس لسيرة طفولة الكاتب ومشاهداته، قبل انتقاله في مرحلة اليفاعة إلى منطقة “الزفتية” التي خصّها الكاتب برواية أخرى صدرت عن اتحاد الكتاب العرب. كما تجلّت تقنيّة السينما واضحة عبر الاسترجاع الدائم “الخطف خلفاً” التي كانت تجريها كاميرا الكاتب لأحداثٍ معيّنة بغية تعميق الوعي بها، وثمّة تقنيّة مسرحيّة في نهاية الرواية، تجلّتْ في استعراضه لشخصيّاته الساردة الغائب منها والحاضر، كما يحدث عادة بنهاية العرض المسرحي حيث تأتي الشخصيات لتقديم التحيّة للجمهور، كاسرة جدار الوهم معه. ولم ينسَ الكاتب ما تكتنزه ميزة السّخرية والمفارقة من طاقة شدّ إيجابي للأسلوب وكذلك للقارئ وتحفيزه على متابعة الأحداث حتى النّهاية بلا ملل، بما تحدثه من فجواتٍ مرحة تُكسب القراءة التّفاعليّة زخماً كبيراً، وتتوفّر الرواية على “ثيمات” اجتماعية كثيرة أهمّها: الانتصار للمهمّشين المنسيّين “شغيلة الفاعل” المتروكين لمصائرهم المجهولة دون أيّة حماية أو عون، والانتصار لمجتمع التعدّدية وقبول الآخر المختلف من حيث الدين أو القوميّة أو المذهب ودعوتها لتشجيع الزّيجة بين أبناء الطوائف والقوميّات لما فيه الخير للمجتمع والابتعاد عن التشنّجات والمذهبياّت القبليّة الضيقة، وكذلك الإعلاء من قيمة الحب بين الناس الذي قد يخلق المعجزات، وتعدّد الضمائر الساردة حتى أنّ الكاتب حاول أن ينسب الرّواية لضمير المؤنث بشكلٍ ما “غيثاء” ولم تحتكر البطولة فيها شخصيّة واحدة، وإن كان الدور الأكبر فيها للسارد العليم بكل شيء وهو الكاتب الذي تجلى تدخّله في سياق السرد بأكثر من مطرح، وثمّة ثيمة واضحة بقوّة أيضاً، هي الاحتفاء بالرموز الفنيّة التي مثّلتْ الفنّ الأصيل والاستشهاد بمقطوعات غنائية لهم كانت أشبه بتوثيق للذاكرة المهدورة: “فريد الأطرش، فيروز، نجاة، صباح فخري، وديع الصافي، فهد بلان وغيرهم.
والثيمة الواضحة بقوّة كبيرة أيضاً، تجلّت بدعوة الرواية لتفعيل دور الإعلام والصحافة التي أثبتت الوقائع دورهما الهائل في تكوين الرؤية الاجتماعية وتأطيرها، ليس بالمعنى السّلبي الدّارج “تكريس اللّون الواحد والرؤيا الواحدة الأفقيّة”، بل تفعيل دور “السلطة الرابعة” عبر فضح الممارسات الزّائفة والفساد المستشري بكامل مفاصل المجتمع، ومطالبة المسؤولين وأصحاب القرار بوضعها على رأس جداول أعمالهم الإنمائية والتطويريّة والانتخابيّة.
أوس أحمد أسعد