ما بعد 15 تشرين الأول
لم يكن اتفاق سوتشي حول إدلب حصيلة جلسة مباحثات واحدة، وإنما هو نتاج طبيعي لمسار من التحوّلات في الميدان العسكري وفي ميادين السياسة، حيث لم يعد بإمكان من لا يريد للحرب أن تنتهي أن يناور أكثر أو يزج بأوراق ضغط جديدة بعد أن استنفد كل ما بوسعه من أكاذيب وأضاليل ومال وسلاح وأذرع أخطبوطية في المنظمات والهيئات الدولية، وبات لزاماً أن يبدأ بالبحث عن مخرجات تقيه ارتدادات الإرهاب، عبر العودة إلى الواقعية السياسية والنزول عن شجرة الأحلام التي تبدّدت وتلاشت أمام ضربات الجيش السوري للعمود الفقري للتنظيمات التكفيرية، ومحاصرتها في بقعة صغيرة ضيّقت خياراتها وباتت عبئاً على من استخدمها خلال سنوات الحرب الضروس.
نكاد نجزم بأن رئيس النظام التركي لم يتحرّك من تلقاء نفسه، كما يحاول الظهور، فالوضع في إدلب ليس في يد أردوغان وحده، ففيها مرتزقة لآل سعود وآل ثاني وأجهزة استخبارات غربية، وخاصة أمريكية وفرنسية وبريطانية، إضافة إلى تنظيمات إرهابية أصبحت خارج سيطرة الجميع، ولا يمكن بأي حال إنهاؤها إلا عبر عمليات عسكرية يمكن وصفها بـ “الجراحية” لاستئصالها كمقدمة لإعادة الحياة الطبيعية إلى عموم المحافظة، التي تحمّلت العبء الأكبر من الممارسات الإجرامية للمجموعات الإرهابية، وفيها استخدم الأطفال والنساء والشيوخ في مسرحيات كيميائية كوسيلة ضغط على الدولة السورية.
كما أن موسكو لم توافق على إعطاء فرصة للنظام التركي وحلفائه في الغرب إلا بعد التشاور والتنسيق الكامل مع الدولة السورية، والأخذ بعين الاعتبار الاستراتيجية التي وضعتها والمتمثّلة باتفاقات التسوية والمصالحات المحلية، وذلك انطلاقاً من التزامها الوطني في الدفاع عن شعبها وأرضها وحقناً لدماء الأهالي الأبرياء وتخفيفاً من فاتورة الدمار، الذي يعد جزءاً رئيسياً من مخطط استهداف سورية. ولأن دمشق وموسكو تدركان أن رئيس النظام التركي لا يؤتمن جانبه ويمكن أن ينقلب على تعهداته بين ليلة وضحاها شددتا على تنفيذ الاتفاق خلال مهلة زمنية محددة بنحو شهر، ما يعني أن لا مجال لأردوغان لمواصلة سياسة اللعب على الحبال والتسويف والمماطلة، كما سيتبين في نهايتها مدى صدقية محور الحرب في لجم سرطان الإرهاب، ولاسيما إرهاب المرتزقة الأجانب الذين يشكلون قوة لا يستهان بها في الجسم الإرهابي ويجب إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية على غرار ماجرى مع ما يسمى “الخوذ البيضاء”.
ذلك يعني أن “اتفاق إدلب” جاء مكمّلاً لمسار أستانا، الذي تمّ من خلاله تحرير حلب وغوطة دمشق والمنطقة الجنوبية من الإرهاب، إما عبر اتفاقات التسوية أو من خلال العمليات العسكرية، ولكن خصوصية إدلب تأتي من كونها آخر معقل يسيطر عليه الإرهابيون ولا خيار أمامهم اليوم سوى العودة إلى بلد المنشأ أو مواجهة مصيرهم على الأراضي السورية، وبالتالي ما بعد 15 تشرين الأول المقبل ليس كما قبله فأي تنظيم إرهابي لا يتم تفكيكه وإلقاء سلاحه ستجري مكافحته بقوة السلاح، والتي نرجح أنها آتية لا محالة لإنهاء الوجود الإرهابي في إدلب.
في النهاية، فإن الاتفاق يمثّل انتصاراً في الدبلوماسية لسورية وحلفائها، فإن استطاع أردوغان ومن معه لملمة مرتزقتهم وتوقفوا عن التصعيد والنفخ في النار فهم يقدمون طوق نجاة لأنفسهم قبل الآخرين، وإن فشلوا أو حاولوا إعادة خلط الأوراق عبر الإيعاز بتنفيذ استفزازات كيميائية سيكونون قد أوضحوا للعالم حقيقة نواياهم وسيمنحون الدولة السورية، عن غير قصد، هامش عمل مريح للقضاء على فلول الإرهاب وعندما يتم ذلك، على الغرب أن يتحضر لاستقبال “ذئابه المنفردة”.
عماد سالم