التصعيد في الأزمة السورية “إشتدي أزمة تنفرجي”!
د. سليم بركات
إعادة تشكّل الحياة على مستوى الشعوب من حيث التقدم والتطور لم تعد تحسب بالأيام والساعات بعد أن اعتمدت الدقائق والثواني، أما بالنسبة للشعب العربي فقد نجد- على العكس من ذلك- تراجعاً ملحوظاً سببته حالات التخلف التي ضربت جذورها أعماق الحياة العربية، باستثناء حالات فردية مبدعة ومتحضرة، لكنها مستثمرة من قبل الأجنبي، نتيجة عدم اكتراث الحكومات العربية بها، بل تجاهلها، وربما اغتيالها نتيجة البيروقراطية والإهمال.
أما المفاهيم والأحلام الوطنية والقومية فقد تحولت على صعيد الواقع العربي إلى كوابيس، وربما إلى تنكيت للتشهير بأصحابها، ولا نبالغ إذا قلنا إن الحديث عن العروبة قد أصبح شبيهاً بالحديث عن خرافة، وإن الحديث عن الوطنية قد أصبح تعصباً أو هرطقة، بل من مفاخر التمييز والفرادة دون تأنيب أو لوم، أما الحديث عن الديمقراطية والمجتمع النقدي، والقيادة بالأفكار، فقد حولته المغالطات السياسية إلى فتنة هدفها تخريب الوطن، وضرب وحدته، وفتح الأبواب أمام التدخل الأجنبي كي يضيع الاستقلال، وتخترق السيادة، وتشوه الأنظمة السياسية الشرعية، زد على ذلك الاتجاه بالموروث القيمي الحضاري الإنساني نحو الاندثار بعد أن مزقته الحروب الإرهابية لمصلحة العدو الصهيوني، المستفيد الأول من هذه الحروب.
لقد اكتملت عناصر الدمار على امتداد الساحة العربية، تحت الرعاية الأمريكية “الإسرائيلية”، وبأدوات وفرتها الرجعية العربية، ليعم الخراب، وتنهب الثروات، ويتعاظم هجوم العملاء على السلطة دون وعي للحقوق والواجبات، وليصبح الكثيرون من هؤلاء قنابل موقوتة، بعد أن نظموا أنفسهم في عصابات مسلحة، فإذا هم في تنظيم “القاعدة، وداعش، وجبهة النصرة”، وغيرها من المجموعات الإرهابية، وزاد الطين بلّة في تفاقم الأوضاع، التضليل الإعلامي، وسوء تقدير المواقف الاجتماعية والاقتصادية، لتزداد نقمة الفقراء، وتشتد الأزمة المعيشية، ولاسيما على من كانوا يعتبرون أنفسهم إلى جانب الأنظمة السياسية الشرعية، بغض النظر عن إنجازاتها على صعيد الواقع، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا إن ما تعيشه الأقطار العربية على أيدي المجموعات الإرهابية كان نتيجة للارتباط مع دول الغاز والنفط العربية، ومن دون عودة إلى التاريخ نجد في قمة هذه الدول: السعودية، وقطر، والإمارات، بالتنسيق مع تركيا، والعدو الصهيوني، بقيادة أمريكية مأجورة.
ليست هي الحرب الأولى التي تشنها الرجعية العربية ضد الشعب العربي التوّاق إلى التطور والتقدم، لكن النتائج التدميرية لهذه الحرب كانت الأكبر من سابقاتها، والسؤال الذي يطرح نفسه: ما سبب انقسام العرب إلى هذه الدرجة التي أضاعت حاضرهم ومستقبلهم، ومنعتهم من البقاء على ما كانوا عليه؟ وبالتالي هل نبالغ إذا قلنا إن أحوج ما يحتاجه العرب في هذه المرحلة هو عاصمة عربية تجمعهم، ومرجعية سياسية توحدهم، وهل نبالغ أيضاً إذا قلنا إن الدول العربية قد أصبحت موزعة ما بين دول تحترق، وأخرى قلقة تحاول أن تتفادى الحريق بأي ثمن، بالإضافة إلى أن البعض من الحكام العرب قد أسقطوا حالة العداء عن “إسرائيل”، منسقين معها أمنياً، واقتصادياً، وسياسياً، وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا إن عرب اليوم في حالة من التيه، غرباء عن أوطانهم، يستوردون الخصومة ليدمروا أنفسهم، لقد فقدوا توازنهم الذاتي، وأضاعوا طريق العودة للإمساك بمقدراتهم والاتفاق على ما يوحد مصيرهم، وكيف لا يكون ذلك بعد أن ثبت أن الدولار هو من أقوى الجيوش، وبعدما احتكرت أمريكا والغرب الليبرالي أسباب العلم، ووسائل التواصل الاجتماعي للسيطرة على مقدرات العالم، وفي الطليعة مقدرات الوطن العربي.
لعبة شد الحبال بين القوى الإقليمية والدولية تقترب من نهايتها على مستوى المنطقة، بعد أن دُحِر الإرهاب على يد سورية، وباقي محور المقاومة، ويبقى الأمل في أن تعلن سورية هذا الانتصار، وفي أن تستعيد مصر ذاتها ودورها، ليولد المشروع العربي المقاوم، إلى جانب محور المقاومة، وهذا لا يعني أن أعداء سورية والأمة العربية لم يحصلوا على حصتهم من تركة الوطن العربي المريض، وأنهم لم يتقاسموا مناطق النفوذ والمكاسب، والقواعد، والثروات، وأن يراهنوا على الجماهير، والأفراد، والطوائف، والمذاهب، والأعراف، وإنما يعني أن الأمة العربية لن تكون بخير إلا إذا كانت سورية ومصر بخير كما قال القائد المؤسس حافظ الأسد.
من لعبة الأمم يجري الانتقال إلى لعبة عضّ الأصابع، والغاية تثبيت المستجدات، وشرعنة الشراهة والسرقات، وتقاسم الحصص في إعادة إعمار الدول العربية المنكوبة، وفي الطليعة سورية، وهذا لا يعني أن الأبواب قد فتحت على مصراعيها أمام الحلول السلمية الشاملة، ووقف النزيف، ووضع الحد للحروب العبثية، وإنما يعني أن كل ما يجري إعداده هو بمثابة فسحة أمل قد يقتنصها أدعياء العروبة والعرابيون، وأصحاب المصالح والغايات في مراحل لاحقة.
كل المؤشرات تؤكد أن الجهود منصبة الآن على إنضاج الطبخة الدولية الشاملة، لكن التجارب ودروس التاريخ علّمتنا التحولات في المواقف التي تفسد الطبخة أو تؤخرها، ولهذا لا يمكن استبعاد حدوث تصعيد أو زرع حقول ألغام للعرقلة، ترضية لوجود أطراف أخرى لم تحصل إلا على الفتات، حيث تركت على قارعة الطريق وحيدة في شوارع التسوية بعد أن نزعت منها الآمال، ومحت أشعة الفجر ظلام الليل، وكل هذا يطرح أسئلة عن شكل التسوية القادمة، والأطراف المشاركة، وآلية التنفيذ، والجداول الزمنية، ويأتي في طليعة هذه الأسئلة السؤال المحيّر الذي يتردد على كل لسان وهو: ماذا عن المستقبل الوحدوي للدول العربية الذي تغرز سكاكين التقسيم في قلبه وفق كيانات طائفية، ومذهبية، وعرقية تأخذ شكل الفيدرالية أو اللامركزية، كيانات ترسّخ مصالح “إسرائيل” ومطامعها، وسيطرتها، ليس على فلسطين فقط، وإنما على المنطقة بأسرها؟!.
تحت شعار: “اشتدي أزمة تنفرجي”، يبدأ العد العكسي لإخراج الفصل الأخير من الأزمة السورية، وهذا بدوره ينتظر موقف الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب التي تسعى للحصول في السياسة على ما لا يمكن الحصول عليه في الحرب، وهذا لا يمكن تحديده حتى تشرين القادم موعد انتخابات الكونغرس الأمريكي، وحتى ذلك الوقت ستشهد أرض المعركة سياسياً وعسكرياً سباقاً حامياً بين الانفجار والانفراج، سباقاً في حروب المواقع، وفي تعزيز مناطق النفوذ بقصد تغيير موازين القوى، وتشريع حقوق المكاسب، وتحديد مصير المشاركين في الحرب على سورية، ممن يتواجدون على أرضها بشكل مباشر وغير شرعي كالولايات المتحدة الأمريكية وتركيا ومن لفّ لفّهما.
بقي أن نقول: على الأرض السورية تتشابك المصالح والقوى، ويتداخل المحلي بالإقليمي بالدولي، والكل بانتظار إنضاج الطبخة السياسية بعد أن احترقت الطبخة العسكرية على يد سورية وباقي محور المقاومة، وكما انتصرت سورية وحلفاؤها وأصدقاؤها في الميدان العسكري، سينتصرون في ميدان السياسة، وإن غداً لناظره قريب.