القوة العسكرية الصينية تحرّك مخاوف البيت الأبيض
هيفاء علي
يبدو أن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين التي أضرم نيرانها ترامب برفع نسبة الرسوم الجمركية المفروضة على الصلب والحديد، ليست وحدها سبب توتر العلاقات بين البلدين إلى هذه الدرجة، فهناك أيضاً عوامل أخرى صبت الزيت على النار، على رأسها القوة العسكرية الصينية، فمنذ ما يقرب من عشرة أعوام، عززت بكين سيطرتها على المناطق الاستراتيجية في نطاق نفوذها، لاسيما في بحر الصين الجنوبي.
واليوم، وفقاً لتقرير البنتاغون السنوي لعام 2018 حول القوة العسكرية للصين، فإن هذا الصعود يتنامى، ولم يرسّخ الجيش الصيني قواته البرية فقط، بل عزز أيضاً قدراته البحرية، وغيرها إلى الحد الذي يمكن أن يقوض التقدم التكنولوجي الأمريكي. ونتيجة لذلك، فإنه بمقدور جيش التحرير الشعبي الصيني السيطرة على المياه المتنازع عليها، والمهمة من الناحية الاستراتيجية في جميع السيناريوهات تقريباً باستثناء حالة الحرب الشاملة مع الولايات المتحدة، فقد عملت بكين على تغيير موازين القوى في منطقة المحيط الهادي، ما انعكس سلباً على المصالح الأمريكية هناك بعدما كانت السفن الحربية منقطعة النظير في المحيط عقب تفكك الاتحاد السوفييتي.
وكان التغيير سريعاً بعد وصول شي جين بينغ رئيساً للوزراء منذ خمسة أعوام، والذي أبدى حرصاً شديداً على إبراز قوة “المياه الزرقاء”، وحماية المصالح الصينية المتنامية في جميع أنحاء العالم، فقام ببناء قوة بحرية قوية، ففي السابق كان الجيش الصيني يركز على الحرب ضد الغزاة عن طريق البر، ولكن في الوقت الراهن، قامت بكين بعسكرة جزر سبراتلي وغيرها من المياه الضحلة الهامة في بحر الصين الجنوبي، ونشرت الصواريخ فيها.
وبدلاً من السعي إلى مواجهة مباشرة، تركز الصين على استراتيجيتها “المضادة للتدخل” لصد المعارضين باستخدام ترسانة غير مسبوقة من الصواريخ البالستية، تقودها شبكة متطورة من الرادارات والأقمار الصناعية، كما أن العديد من أسلحتها يكاد يكون من المستحيل اكتشافها واعتراضها.
تمتلك بكين الآن أول ناقلة طائرات صنعت في الصين، في حين أن ناقلة أخرى قيد الإنشاء في شنغهاي، وقامت البحرية الصينية ببناء أكثر من 100 سفينة حربية، وغواصات على مدار العقد الماضي، ففي العام الماضي أطلقت جيلاً جديداً من “المدمرات السوبر”، مع السيطرة على الإنفاق العسكري من خلال اقتصادها المزدهر.
إن ثقة الصين المتزايدة في هذه المياه غير المستقرة تندرج في سياق أوسع يتخطى التوغلات التي تتجاوز التفويض التقليدي، ففي أفريقيا تعمق بكين روابطها التجارية، وتستثمر بكثافة في البنية التحتية، ووسّعت نفوذها السياسي والعسكري لتصبح ثاني أكبر مورد للأسلحة في القارة الأفريقية بعد روسيا، ووفقاً لتقرير نشره المركز الأفريقي للدراسات الاستراتيجية في عام 2017، تدير بكين حوالي 2500 مشروع للتنمية والإنشاء والبناء بقيمة 94 مليار دولار في 51 دولة أفريقية.. لقد تفوقت الصين على الولايات المتحدة كأكبر شريك تجاري لأفريقيا منذ ما يقرب من عقد من الزمن، ويبدو أنها تسعى الآن للوصول إلى الموانئ والقواعد في المحيط الهندي من خلال إرضاء الخدمات اللوجستية للإمدادات والتجديد، ويمكن لهذه المواقع أن تساعد في العمليات البحرية بعيدة المدى في بكين.
جيبوتي، تقع في القرن الأفريقي الاستراتيجي عند مدخل البحر الأحمر، صغيرة، ولكنها ذات أهمية كبيرة، بنت بكين أول قاعدة خارجية لها، وفي وقت سابق من هذا العام أنهت جيبوتي عقدها مع واحد من أكبر مشغلي الموانئ في العالم، موانئ دبي العالمية، وهو القرار الذي نقضته لاحقاً محكمة لندن، كان يخشى من أن تسيطر جيبوتي على المحطة، وأن تتبرع بها للصين، ويحذر المحللون بالفعل من أن جيبوتي قد تصبح آخر بلد يسقط في الدين الصيني عن طريق اقتراض أموال أكثر مما تستطيع سداده بأسعار فائدة مرتفعة للغاية، هذا الأمر يثير مخاوف الولايات المتحدة التي لا تملك إلا قاعدة أفريقية دائمة واحدة في جيبوتي: “كامب ليمونير” التي تضم حوالي 4000 جندي أمريكي، وقد يؤدي السيناريو إلى جعل الصين تضغط على جيبوتي المثقلة بالديون لتسليم معسكر ليمونير.
هناك مناورات أخرى أيضاً، فإبان الحرب الباردة، كانت القوات الصينية والسوفييتية تنظر إلى بعضها البعض بعين الشك، أما الآن فإن موسكو تتجه شرقاً، في هذا الشهر انضم أكثر من 3 آلاف جندي صيني إلى مئات الآلاف من الجنود الروس لإجراء تدريبات مشتركة في الألعاب الحربية واسعة النطاق، ويعد هذا أهم تدريب عسكري تنظمه روسيا منذ ما يقرب من أربعين عاماً، ما يسلط الضوء على تكثيف التعاون بين موسكو وبكين، وتجري هذه الألعاب في منطقة حدودية بين الصين ومنغوليا وكوريا الديمقراطية، وهي تشير إلى ما يمكن أن يكون تحالفاً عسكرياً يجري تشكيله على قدم وساق.
وبالإضافة إلى ذلك، يشير خبراء عسكريون إلى أن الصين تسعى إلى أن يكون لها وجود عسكري في أفغانستان، حيث تخشى بكين أن ينعكس عدم الاستقرار في هذا البلد على منطقة شينجيانغ، وتشير التقارير إلى أن الصين عازمة على بناء قاعدة عسكرية في أفغانستان لمئات الجنود الذين ينفذون مهمات التدريب على مكافحة الإرهاب، رغم أن متحدثاً باسم وزارة الخارجية الصينية نفى وجود مثل هذه الخطط.
كل هذه الإنجازات المهمة في مناطق متنوعة مثل البحار المجاورة والقرن الأفريقي والدولة التي مزقتها الحرب تظهر أن بكين اكتسبت القوة والقوة المالية والتأمين، لا تكتفي ترسانات الصين واستراتيجيات القوة الناعمة فقط بردع واشنطن عن التدخلات المكلفة في هذه المناطق المتنازع عليها، ولكن قوتها النارية وانتماءاتها الجديدة تتحدى السيادة العسكرية للقوى العظمى السابقة، وتزعزع الوضع القائم القديم.. عدة عقود مضت وعلى الرغم من أن وزارة الدفاع الأمريكية تدرك تماماً هذا الصعود، فمن المرجح أن تصل جهود واشنطن في اللحاق بالركب الصيني بعد فوات الأوان، بنظر المراقبين.