الشرق الأوسط.. “ما بعد الجديد”
الشرق الأوسط يدخل فعلاً، وللمرّة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مرحلة المتغيّرات الاستراتيجية: سورية تنهي آخر فصول الحرب على الإرهاب الدولي وتعيد رسم معادلات الصراع مع العدو الصهيوني من خلال توازن جديد للقوة؛ روسيا تجمع أوراق اللعبة، وتكاد تمارس وحدها دور ضابط الإيقاع في العديد من الملفات والمناطق، والولايات المتحدة الأمريكية تبدو غير مكترثة بالإبقاء على حضورها مكتفية بالعمل على حماية انسحابها من خلال إشعال مشاكل جانبية، ونتنياهو محشور في زاوية ضيّقة بعد خسارته معركة الـ إس300، وضمانات الـ 2015، ليواجه شبح انتخابات مبكّرة بدأت تلوح في الأفق، وأردوغان جثة سياسية هامدة تعيش على زجاجات الأوكسجين التي يتبرع بها الرئيس الروسي أحياناً، ويمدّه بها حليفه/خصمه الأمريكي أحياناً أخرى، وضمن شروط والتزامات وضوابط محددة.
ولا مبالغة في القول: إن عصر الفوائض المالية الخرافية قد انتهى، وإن ملكيات ومشيخات النفط والغاز المترهّلة تقف على مشارف تحديات تاريخية، بل وأزمات بنيوية، وحتى وجودية، داهمة، فإما تقاسم العائدات مقابل الأمن والاستقرار وإما تخلي واشنطن عن الحماية، وإما الإصلاح السياسي والاقتصادي و”الديني”، وإما الفوضى والانفجارات الاجتماعية. العلاقات الأمريكية مع شرق أوسط الأحادية القطبية تتداعى ببطء، وفي الخفاء، في معرض محاولة إعادة بنائها – إن كان ذلك ممكناً – وفق أسس واشتراطات جديدة، ومعسكر واشنطن يتفكّك وتتلاشى روابطه وصلاته الداخلية، فمن غير المؤكّد تماماً، بعد الآن، إلى أين ينبغي على “إسرائيل” أن تتوجّه لكي تحتفظ بتفوقها العسكري، أو بـ “قوة الردع” التي احتفظت بها لعقود طويلة ماضية: إلى البيت الأبيض أم إلى الكرملين؟ إلى اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية أم إلى يهود الاتحاد الروسي على اختلاف المعايير السياسية التوجيهية بين المرجعيتين؟ كما يتعيّن انتظار المزيد من الوقت قبل أن نعرف أين سيجد أردوغان نفسه مُكرهاً على الهبوط في النهاية: في الشرق الآسيوي أم في الغرب “المتخاذل” الذي يرسل إشارات متناقضة بين الحاجة الجيو – استراتيجية والعنصرية والفوبيا الثقافية؟ وعلى أية أسس سيحدّد الطاغية العثماني هويته السياسية في آخر المطاف: إسلامي صنعته “حداثة” الحرب الأمريكية المزعومة على الإرهاب، أم عثماني جديد يحلم بإحياء السلطنة، أم تركي متعصب لطورانيته، أم مجرد تابع أطلسي هو آخر اهتمامات بروكسل في النهاية؟.
يُصنع “الشرق الأوسط ما بعد الجديد” من آلاف الخطوط والتقاطعات والانتصارات اليومية الصغيرة والكبيرة التي يسجّلها تيار المقاومة، والتي يتقدّم من خلالها بخطوات ثابتة أمام التآكل التدريجي للتحالف الأطلسي الإسرائيلي الرجعي، الذي يعيش حالة فعلية من تضارب الاستراتيجيات والمصالح، رغم كل الأقنعة والمساحيق التي يرسمونها لإخفاء حقيقة أزماتهم السياسية والاقتصادية والأخلاقية الضاربة والمستعصية. وما الانخراط في حروب تجارية سافرة ومكشوفة، وماالابتزاز العلني والمقايضة الفضائحية بين لوائح أسعار النفط والحماية الأمنية، وما التقلبات الهزلية التي باتت علامة مسجّلة للسياسة الترامبية، وباتت محط سخرية الأصدقاء قبل معارضي السياسة الأمريكية، وما التباينات داخل طواقم الإدارة نفسها تجاه قضايا استراتيجية وحسّاسة، وما مسارعة العديد من حلفاء واشنطن نحو تنويع الاستثمارات الخارجية ومصادر مشتريات السلاح باتجاه الشرق الآسيوي، وما تحوّل العاصمة الروسية إلى محطة إجبارية للدبلوماسية الشرق أوسطية والعالمية.. ما كل ذلك إلا التعبير عن انتقال في مركز ثقل السياسة الدولية، وتآكل في الزعامة الغربية والأمريكية، وهما انتقال وتآكل سوف يلقيان بتداعياتهما الإقليمية والعالمية، وينهيان على الأقل الاحتكار الأمريكي لصلاحية اتخاذ القرارات المصيرية العالمية، ويدشنان حقبة جديدة في السياسة الدولية.
“الشرق الأوسط ما بعد الجديد” هو الذي تصنعه اليوم قوى وتيارات و”أنظمة” ليست جديدة، ولكنها وصلت إلى نقطة تكريس الحضور بعد أكثر من أربعة عقود من الممانعة والمقاومة؛ دفعت فاتورة العقوبات والحصارات التجارية والاقتصادية، وتحمّلت ضغوطات العزل والاحتواء السياسي، وعانت من الاتهامات المغرضة والكاذبة، وتعرّضت لحملات منهجية لتلويث السمعة والشيطنة، ولكنها تقطف اليوم ثمار الإرادة الصلبة والمواقف المبدئية والدفاع عن المصالح الوطنية والإقليمية، وتمسك بمفاتيح مستقبل المنطقة وتعبر عن إرادة شعوبها بكل مصداقية.
بسام هاشم