مستقبل الغرب في تصور الجيل الجديد
ترجمة وإعداد: عناية ناصر
عرضت المجتمعات الغربية سمعتها للشك، وزعزعت استقرارها، وهي تحاول يائسة التغلب على حرجها بعد انتخاب الديماغوجيين الشعبويين، كيف يفتقد الفائزون في الحرب الباردة، أغنى المجتمعات في التاريخ، إلى تحمّل المسؤولية؟ الجواب ليس بالأمر السهل، ولا يكمن في “الأزمات” قصيرة الأجل، بل يجب اكتشاف المشكلة على المستوى الأعمق من التطور التاريخي والاجتماعي، والذي يمكن تقديمه على النحو التالي:
لقد أدرك الجيل الأول بعد الحرب العالمية الثانية ما يجب فعله: إعادة بناء العالم، وإعادة إحياء الاقتصاد، ومكافحة الجوع، وتوفير السلع الأساسية مثل المياه العذبة، والغذاء، والسكن، والعمل من أجل المصالحة بين الأعداء السابقين، والعمل ضد الكراهية والتطرف، وخلق هياكل للاتصال والتعاون الدوليين، كان إدراك الحاجة إلى التماسك الاجتماعي سائداً، وكان من الواضح جداً أن الكارثة التي أفرزتها الحرب لا يمكن التغلب عليها بجهد فردي، بل فقط من خلال مشروع مشترك،
سمح هذا الموقف الذي تحقق من خلال الخبرة الفعلية للمجتمعات في ألمانيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وايطاليا، واليابان، والولايات المتحدة أيضاً القيام بجهد مشترك وعادل لإطلاق ما سمي فيما بعد بـ “العصر الذهبي للرأسمالية”، أو “الثلاثين سنة العظيمة” في النسخة الفرنسية، لقد كان توازناً بين الحرية الفردية- القيمة الغربية المركزية- والالتزام الاجتماعي، واقتناعاً مشتركاً أنه معاً فقط يمكن، في مجتمع عادل إلى حد كبير، التغلب على شرور نصف القرن السابق، وكان كتاب “العودة من الجحيم” لايان كيرشو عنوان أفضل كتاب في هذه الفترة، وهكذا كان، فقد قدمت دولة الرفاهية الغربية (الأوروبية أكثر منها الأمريكية) ومجتمعاتها جيلاً كاملاً لهذا المشروع.
تغير هذا الوضع يعود برمته إلى أزمة السبعينيات، ليس بسبب عوامل خارجية (مثل أزمة الدولار في عام 1971، أو صدمات أسعار النفط في 1974 و1978)، ولكن لأن النمو لم يعد مستداماً، فكل شخص لديه كل شيء تقريباً الآن قد تتمناه له: وظائف، منازل أو شقق، معدات منزلية، اتصالات (أجهزة تلفزيون)، وأدوات للتنقل (سيارات فردية)، عطلات مدفوعة الأجر، إلخ، فماذا تبيع عندما يملك الجميع كل شيء؟!.
كانت الأسواق المتخمة هي المشكلة، وقد أدى ذلك إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وطرحت تساؤلات حول “وعد النمو” للجيل السابق الذي حرّر نفسه من معناه الأصلي، حل أزمة السبعينيات كان ذا شقين: سياسي وتكنولوجي، الليبرالية الجديدة من جهة (ريغان وتاتشر)، والثورة الدقيقة من ناحية أخرى، وهنا يقول الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان: الحكومة ليست الحل، الحكومة هي المشكلة”، كما زعمت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، بأنه لا يوجد شيء اسمه المجتمع، هناك أفراد رجال ونساء، وهناك عائلات، تم تشجيع الجميع الآن على السعي لتحقيق غاياته وأهدافه الفردية، حيث تم إطلاق العنان لجميع الطاقات الفردية من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى، أي إحياء معدلات نمو “العصر الذهبي” المفقودة، وكل العقبات التي تعترض سبيل ذلك، تم فقدان الطريق، والالتزامات الاجتماعية في الصف الأول، كما أن المعدات الجديدة التي تم بناؤها بشرائح ميكروية، أي الحواسيب الشخصية، والهواتف الخلوية، والعديد من التطبيقات الأخرى، أعادت إحياء الاقتصاد من خلال ثورة صناعية ذات تأثير عالمي، تميز الجيل الثاني بعد الحرب بالرغبة الفردية لتحقيق الأحلام من خلال الاستمرار في قصة نجاح عصر ما بعد الحرب مهما يكن الأمر، وبأي ثمن، ما يعني السعي الحثيث كي يصبح أكثر ثراء.
ومع ذلك، كان ذاك السياق ذا مغزى للكثيرين، إن لم يكن لجميع أفراد المجتمعات الغربية، إذ لايزال ينظر إلى هدف النمو غير المنقطع على أنه “سلعة مشتركة”، ويستحق استثمار حياتك وعملك، وحتى قبول بعض المضايقات، لكن الثمن كان باهظاً، فقد تأكدت وجهة نظر تاتشر التي كانت أقرب ما يكون لنبوءة تحقق نفسها، فقد انقسمت المجتمعات بين رابحة وخاسرة من تلك الحرية الفردية غير المحدودة التي لم تعد ملزمة بالمسؤولية الاجتماعية، حيث تم إضعاف أوصال المجتمعات التي أخذت تعاني من عدم المساواة المتزايد.
أثبتت المحاولة الاجتماعية الديمقراطية لإيجاد “طريق ثالث”، في نهاية القرن الماضي، أنها غير حاسمة، وساهمت في التراجع الواضح للديمقراطية الاجتماعية الغربية، لم يكن الأمر يحتاج إلا لدافع لكشف مدى هشاشة النموذج الغربي للتنمية، لم ينتظر هذا الحافز الدافع لفترة طويلة قادمة، فكارثة القطاع المالي والأسواق في عام 2008 أظهرت بشكل واضح أن الجيل الثاني بعد الحرب اعتمد على أسس هشة، وأن مشروعه لم يعد وعداً مقبولاً لجيل كامل، لمجتمع بأكمله، فإنكاره للمسؤولية لكسب الحرية، وإنكاره للتضامن من أجل كسب السعي وراء “السعادة” الفردية قد قوض أساسيات التماسك الاجتماعي، وطرح تساؤلات حول المعنى الصحي للجهود الإنسانية في المجتمعات الاجتماعية.
اليوم، يواجه الغرب ظهور الجيل الثالث بعد الحرب، والذي لم يتوضح شكله، ومعتقداته المشتركة، ومشروعه بعد، فلايزال الوضع الحالي يتسم بميزات العصر النيوليبرالي المتلاشي، مثل: السعي الفردي، الأناني للمصلحة، إنكار المسؤولية، ولكن دون ثقة بموثوقية مثل هذه المواقف واستدامتها، هناك ديماغوجيون معاصرون وشعبويون- ودونالد ترامب مثال بارز على ذلك، لكنه ليس المثال الوحيد- يستغلون عدم اليقين لدى الكثير من الناس، ويثيرون الكراهية، ويشجعون على إنكار الحقيقة الفردية “الأخبار المزيفة”، كل ذلك دلائل واضحة على البحث عن مقاربة جديدة، عن وضع جديد، بقدر ما هي تحركات هستيرية يائسة دون مشروع، ودون اتجاه، ودون مستقبل.
ما يعانيه الغرب حقاً هو عدم وجود مشروع يستحق أن يملأ حياة جيل جديد بالمعنى والإحساس!.