الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حنا عبود

حسن حميد

كثرة هم أهل الثقافة والأدب والفنون والعلم الذين أغنوا الحياة برمياتهم الفكرية، وبراعاتهم الذهنية، وإبداعاتهم الفذة، وغيرتهم الوافية كيما تصير الدنيا عالماً من الأحلام الزاهية، وكثيرة هي الكتب التي حلّقت في فضاءات الفكر والعقل والحواس كما لو أنها الطيور كيما تغادر الذات البشرية أوتادها الجلية في الخوف، واليأس، والنكوص، والانكماش، إلى عالم المغامرة والكشف.. لكن هم أهل ندرة أولئك الذين قرّوا في الأرواح والنفوس والقلوب بوصفهم بناة العالم، أصحاب الاشتقاق والافتراع والمضايفة، وهي من الندرة بمكان تلك الكتب النفوذ العابرة لعالم المناسبات، ومتواليات الزمن، لتصير حجر الزاوية في كل وقتٍ ومكانٍ وتشوفٍ لما اتسمت به من شمولية، ونباهة، ومعنى، وقيم أزلية تلخصها ثلاثية القيم الذهبية (الحق والخير والجمال) وطيوفها المتعددات.

من هؤلاء المفكرين أهل المكانة والإحاطة والمضايفة حنا عبود، الناقد، والمترجم، والمفكر الذي أغنى الحياة الثقافية السورية بثقافة تكاد تكون موسيقا لرشاقتها وجذبها، وحسن اختياراتها، وجماليات أسلوبها، وحرصها الشديد على حضور البعد الفلسفي ولو في أسطر معدودات لقناعة قرت في واعية حنا عبود أن الفلسفة هي ملح الثقافة الحافظ لها من البلى، والتبدد، والبهوت.

حنا عبود الذي اغتنيتُ به شخصياً، وعلى غير صعيد، بدأ مشواره الثقافي بعد أن حاز علوم الجامعة في اللغتين العربية والإنكليزية كيما يسوّر دربه الثقافي بالمعرفة التي يحتاجها حلمه في أن يكون ناقداً، وقد كان منذ البدايات قارئاً مخلصاً للثقافتين العربية والأجنبية، يمضي إليهما في قراهما البعيدة كيما يأتي بالمدهش المحتشد بالأسرار، ولا سيما ما زلّه الآخر ظناً منهم أنه النوافل والهوامش، لأن حنا عبود لم يتمتع بعقل موّار، جوّال، قادر على الاصطفاء والاختيار فحسب، وإنما كان صاحب عين نفوذ ذات حساسية تميز النادر من النادر. ومع الأيام، واندفاعات عشقه للثقافة والكتب، ومساهرة الحميم من الأفكار والاشتقاقات، صارت لذاته مرتكزات أساسية لم تحد عنها يوماً، وأولها عشق الثقافة والإيمان بها بوصفها أداة التغيير والبناء، وثانيها العمل، ولا أظن أن الدنيا بحاجة إلى أكثر من هذين المرتكزين، أعني العشق والعمل، لأن كلاً منهما لا يعرف الاستقرار والطمأنينة، ولأن كلاً منهما كائن عطش للمضايفات البكر.

عشق المعرفة هو الذي جعل ذات حنا عبود تستحوذ على الثقافة الدانية جغرافياً منه، وعلى الثقافة البعيدة عنه السادرة في عالم الغموض والمجهولية، فكان أن بدأ بالجذور افتناناً بالأعماق، وشوقاً لمعرفة البناءات الأولى لليد البشرية من جهة والعقل البشري من جهة أخرى للإحاطة بالمرامي ومعاني البناء الفكري/المعنوي، والمادي/العياني حين ذهب لجلو ما أسماه هيغل بـ (المعجزة اليونانية)، عندما شد روحه الشغوف بالمعرفة إلى عالم الأسطورة والميثولوجيا والمدونات الأولى لترسيمات العقل الأولى التي لم تزل البشرية كلها، والعقول كلها تدور حولها وكأنها هي قطب المعرفة وعمودها.

ولم أعرف طوال تعالقي مع الثقافة رجلاً آمن ببكورية الأساطير ومعانيها، وسحر الميثولوجيا وحكاياتها، واستمرارية معانيهما في حياة البشر إلى ما شاء الله من أزمنة مثل حنا عبود! ولم أعرف مثقفاً جلا أساليب الكتابة لدى اليونان والرومان، وقال بثقة إننا نمشي في دروبهم سوى حنا عبود، ولم أعرف مثقفاً أوقف سنوات عمره ومداد ثقافته من أجل التأسيس للتعاريف والمصطلحات الثقافية الصحيحة ، كيما تكون للمعرفة مرجعية واحدة بعيدة عن التخمين سوى حنا عبود.

حنا عبود الناقد، والأديب، والمترجم، والمثقف، والمفكر.. وأنت في زهوة الثمانين من عمرك، نجهر بأننا تعلمنا منك الكثير، فقد كنت وستظل كتابنا المعرفي الثقيل.. الجميل.

Hasanhamid55@yahoo.com