كلام خارج قانون العرض والطلب!؟
د. نهلة عيسى
في المسافة ما بين بداية الحرب ووقتنا هذا, أقوم كل يوم كالغريب الشريد, بشد الليل على كتفي, أجرجره في الأزقة المخفية, كقطة يشتعل ذيلها, تتمتم بأسى كلمات, تبدو كقصص الجدات الفانيات, عن زمن عذوبة ولى, وعن الوطن .. يعربد الوجع, الخوف, الفتنة في ساحاته, وعما تهشم, وعما أشتعل, وعما الآن يشتعل, ثم تنفض رأسها كالخارج من ماء البحر لتخاطب اللا أحد: لماذا التمتمة, وحوار الطرشان هوية وطنية, والحرب خلف كل الأبواب المواربة تستجر الذكريات المقددة,ألم أقل لكم: نحن في زمن السوق, والجروح لم تعد قصاص, هي سلع تباع وتشترى, وفق قانون العرض والطلب!؟.
سوق كبيرة تعجب البشر, مجرد وشوم لملامح بشرية, تراقب النار تتآكل أسياخا لشاورما, فأتذكر بفزع كيف راقبنا النار, وهي تلتهم جسد الوطن!؟ وكيف صارت دماءنا ماء يراق كل يوم في الأخبار, بينما واجهات المحلات تطرد ظلالنا المصابة بسوء التغذية, وتبيع لمن باعونا, طعام, ثياب, حلي, ووعود بأن من يملك المال يملك المغفرة, فنراهن من خلف الواجهات الملونة على مذبحة أخرى تزين لحومنا صحونها, لكن تحت عناوين جديدة, فالسوق بات وطن!؟
أشاهد في النهار ما يبدو شمساً وليس شمساً, بل مجرد سراب ومرايا محدبة, وألف وجه ووجه لكل وجه, واسأل نفسي: هل تبحثين عن حقيقة في هذا الضباب, في هذا المدى, في بحر من البشر؟ استريحي وأريحي لأن ما يبدو نهاراً هو سدى بعد مدى, فالنهار في بلدنا يد تتساند على جدار الليل, وخطوة إلى الأمام وألف خطوة إلى الظلام, لاشيء في النهار يخيفني أكثر من أنه يبدو متعرياً ليوهم بالحقيقة وفي عمق عمقه يعيش الظلام!.
أخسر (مثلنا جميعاً) قلبي كل خطوة, وأداري الخسارة بالنهار, والمشكلة أن نهاراتنا تعلم قلوبنا الطأطأة, فتجعل العمر يبدو هباءً, والصبر غباءً, وابتسامات الضحى صدأ على الشفاه؟ فماذا أفعل, وقد غمر غبار السجال عن من فينا كافر ومن فينا رسول, النقوش والصور, ورسم الغد خطوطاً متعرجة, يدير لنا كتفيه مستهزئاً: تستقبلون الغد بجثث من ألف عام وعام!؟ فتنتابنا البلاهة: ماذا يفعل المغبونون, المغلوبون مثلنا, حين يوليهم الغد الظهرَ, وهم أصلاً بلا ظهر!؟
في المسافة مابين بداية الحرب, وكل يوم من أيامي,سئمت الشرح المتواصل, أن هناك فرقا بين دق الجرس لينزع النهار نقابه المعتل, وبين دق الصدر, حيث تمر أحرف الكلمات على آذان البشر, وكأنها تلقى في سلة المهملات, فلا أحد يريد أن يسمع سوى ما يريد, ومأساة هذا البلد منذ ألف حين وحين أن أصحاب قراره حتى الآن لم يدركوا أنهم كانوا وما زالوا لايسمعون ما يجب أن يكون, بل يسمعوا ما يريدون, بحجة أن النهار وضوح, رغم أن الدم تحت أظافر النهار الطويلة, فلا يغرنكم الوضوح, فالوقاحة أيضاً وضوح, والفجور وضوح, والعهر وضوح, والخيانة وضوح, ومن باعوا هذا البلد الحزين, وسرقوا حبات قلوب الأمهات, تذرعوا بالوضوح!!
في المسافة مابين بداية الحرب, وكل يوم من أيامي, أبدو للبعض وكأني بومة تنذر بالخراب!؟ والحقيقة أني فقط من موقع المواطنة, أنذر, أحذر, ألملم أحاجي النهار, وأشعر أحياناً مثل زرقاء اليمامة, أني من موقع الوجع أرى ما لا يرى, ولذلك أتتبع الشواهد البيضاء المكللة بشقائق النعمان أقدم إليها زكاتي, وأسرع الخطى خلف الجند, لأنني أظن وظني يقين, أن خلف خطاهم وحدهم يمكن لنا أن نلملم خلافاتنا, انكساراتنا, انحناءاتنا, ويمكن أن يولد النهار الذي أنتمي إليه أنا, حيث الرب في عالي سماه يقول لنا: أنا في كل ذرة تراب تحافظون عليها, في كل رصاصة حق تطلقونها, أنا في القلوب وصدق النوايا, ولست في الورق, فتبارك الرب الذي في السماء وإليه وحده أنتمي.