ذاكرة وطن
سلوى عباس
ما بين حرب وحرب مر عمر من أحداث تباينت في تأثيراتها وصداها، ففي تلك الحرب لم يكن عمري تجاوز السنوات الست وتلوح في ذاكرتي بعض ملامح حرب حزيران، التي كانت مختلفة في إحساسي وردود فعلي على أحداث حرب تشرين، رغم المسافة الزمنية القصيرة بين الحربين، إلا أن ما اختلف هو وعي لمعنى الحرب وما أفسدته من متعي الطفولية وأنضجتني مبكراً، ليبلغ الأسى مداه إثر هاتف تلقاه والدي ليلتحق بعمله وإعلان الاستنفار العام.. وكان لوداعه لنا كبير الأثر في روحي، فغادرني الفرح وانصرف اهتمامي إلى معرفة تفاصيل ما يجري، ولو أنّ بعض الأمور كان عصي علي فهمها وأنا أرى الناس وقد ارتدت وجوههم ملامح الخوف والقلق غير المعلن، الأمر الذي حرك فضولي الطفولي لمعرفة ما يجري وأخذني بعيداً لأتابع تطورات الحدث، ولأفهم ماذا تعني الحرب، لكن دون جدوى.
كان أهل الحارة يجتمعون في الملاجئ ليلاً خوفاً من الغارات الإسرائيلية، وفي النهار كان الجميع يعيشون لحظاتهم على وقع نبضهم فيسبقونه ويسبقون الزمن الأرضي إلى ضوء من أمل بأن النصر حليفنا، أما أنا فكان انشغالي على والدي كبير، وحتى أبدد هذا الانشغال كنت ألجأ إلى حديقة البيت لأزرع في مساحة منها بعض الخضار التي كان والدي يحبها وكنت أراقبها وهي تكبر، وكان اخضرارها وحيويتها يمنحاني الإحساس أن والدي بخير، وينتابني شبه يقين بأنه سيتصل وهذا ما كان يحصل، وكم كنت أفرح عندما كان في زياراته الخاطفة لنا يأخذ بعضاً منها إلى قطعته العسكرية، وأبقى أنا موزعة مابين أوامر والدتي أن أبقى بجانبها وبين مغافلتها لأتنصت على أحاديث الرجال لمعرفة أخبار الحرب، وكنت أشعر نفسي حينها متحررة من الخوف أو إني كنت لا أدرك معناه، وأذكر كم كانت روحي تتألق فرحاً عندما يتحدثون عن هزيمة ألحقها جنودنا بالعدو، وبالمقابل كنت أتجهّم وينقبض قلبي عندما يشن العدو أيّ هجوم علينا، واستمرت الحرب مابين إشراقة حيناً وعبوساً حيناً آخر، إلى أن أشرقت شمس الانتصار التي رسمت ذاكرةً جديدةً لوطن يعبق برائحة العزة والكرامة، رايته خفّاقة نحو غد مضاء بالأصالة والعظمة.
هاهي الذكرى تطل لتعود بنا إلى تلك الليلة التي كانت نقطة التحول في حياتنا حيث أخذت سورية تغزل من خيوط الشمس مجد تاريخها ومستقبل أبنائها الذين يتباهون بوجودهم في وطن يضمهم ويمثل انتماؤهم للحياة، فما يعيشه الإنسان من حالات تصبح جزءاً من وعيه لانتمائه الوطني، وهؤلاء الناس المتقدة قلوبهم بشعلة الإيمان والأمل على تجاوز محن الحياة هم من يملكون القدرة على صياغة الحاضر والمستقبل بإرادة وتصميم على مواجهة كل التحديات، هذا مارسّخه تشرين التحرير منذ اللحظة الأولى لانطلاقة الحرب في وجدان الشعب السوري الذي امتلك مقومات الحلم والإرادة وسر الحياة.
اليوم ومع الانتصارات التي يحققها أبطال جيشنا على امتداد وطننا السوري يطل فجر جديد معطر بندى تشرين ينشر عبقه في أرواحنا ويدعونا لنكتب في هذه الـ”سورية” عقولنا..وأرواحنا.. وأنفاسنا مازالت طيبة لأننا ولدنا تحت أشجار تحب الأرض وتعشق السماء المعلقة بالشغف وتفسح في أرواحنا حيزاً لانبثاق أمل.. فصباح الوطن الجميل.. صباح سورية المشرقة بقامات طاولت الشمس وسطرت في سفر التاريخ حكايات المجد.. صباحكم سكينة وهدوءاً أبطالنا الميامين وأنتم تغزلون لنا الحياة وشاحاً من سلام وطمأنينة، فتضيء الشموس، ويعبق الياسمين مرتلاً لكم وللوطن أنشودة السلام..