من تشرين إلى الحرب الوطنية العظمى
د. صابر فلحوط
لقد أثمرت بعض جوانب التضامن العربي المتمثلة بـ اتحاد الجمهوريات العربية حدثاً متميزاً في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، وهو حرب تشرين التحريرية في 6/10/1973 والتي جاءت بتنسيق مسبق، ومحكم بين سورية العربية، ومصر العربية. و قد كان الهدف المركزي والاستراتيجي لهذه الحرب هو تحرير الأرض المحتلة، واستعادة القدس، وكل ما احتلته إسرائيل في نكسة حزيران 1997 ووضع القرار الأممي 242 موضع التنفيذ الفعلي وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
وقد جاءت إرهاصات الإعداد لحرب تشرين غاية في الدقة، والسرية، والتمويه، مع أنها بدأت منذ مؤتمر اللاءت الثلاث في الخرطوم بعيد النكسة 1967 واستمر التخطيط والإعداد، ومراجعة الخرائط، ومناقشة المواعيد بالساعة بل بالدقيقة حتى الأسبوع الأول من عمر تلك الحرب التي شرفت العرب ومنحت أرفع الأوسمة للجندي العربي على جبهتي القناة والجولان، وقد أكد المحللون العسكريون في حقل الاستراتيجية القتالية أن هذه الحرب بالرغم من أنها تمثل أنصع أيام العرب في القرن العشرين فقد كانت نصراً عسكرياً رائعاً، وفشلاً دبلوماسياً وسياسياً محزناً، بسبب أصبح يعرفه العالم والجاهل من جيل تشرين وهو قيام السادات بإيقاف القتال على الجبهة المصرية، حيث أدار ظهره للميدان بعدما اجتاز خط بارليف على شاطئ القناة وارتمى في حبائل السياسة الأمريكية وصديقه العزيز هنري كسنجر ( على حد تعبيره)، والذي أقنعه بأن أمريكا وحدها، الوكيل الحصري لحل القضية الفلسطينية التي تملك 99٪ من أوراقها !!.
ولعل الخطوات التي ارتكبها السادات بعد إيقاف القتال على الجبهة المصرية ( خارج حدود الاتفاق والتخطيط والاستراتيجية للحرب)، وقولته ( وداعاً للسلاح، وإن تشرين هي آخر الحروب)، والتي تبعها مسلسل النكوص (زيارة القدس، والارتماء بأحضان العدو، وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد)، كل ذلك شكل قاصماً هائلاً لظهر العمل العربي المشترك، كما هشم رأس القضية المركزية للأمة العربية، وأحدث الخرق الأكبر في الجبهات النفسية والاجتماعية والعسكرية والقومية على صعيد الوطن العربي من الجزائر والرباط حتى دمشق وبغداد!.
إن جنودنا البواسل الذين استلهموا بطولات تشرين واستووا على جمرها المتوقد، وتعملقوا في عرس شهدائها العظام، قد امتلكوا من ضروب الخبرات القتالية، ودروس المواجهات الصعبة، كما أبدعوا في استخدام الجديد من صنوف العلم، والفعل والتكنولوجيا في مجال الهجوم والفدائية، ما جعلهم يستولون على إعجاب العالم، وإكباره في حربهم الوطنية العظمى خلال أكثر من سبع سنوات واجهوا فيها القتلة المجرمين والإرهابيين التكفيريين من أكثر من مئة وثلاثين بلداً حيث صنعوا بدمهم الطهور وصمودهم المدهش ما دخل تاريخ الحروب الوطنية على مستوى العالم وأصبح بوصلة للشعوب المناضلة من أجل حقها، وأرضها، وحرية كلمتها.
لقد كانت الحرب الوطنية العظمى في سورية امتداداً واقعياً لحرب تشرين التحريرية انطلاقاً من وحدة المدافعين عن أرضهم وتراث أجدادهم وهم جنودنا الأشاوس من جهة، وحشود الغزاة والإرهابيين صنائع أمريكا والصهيونية ونواطير النفط وأزلام الرجعية العربية الحاقدة من جهة أخرى.
وقد تميزت الحرب الوطنية العظمى عن سابقتها حرب تشرين بل عن أية حرب على وجه هذا الكوكب بجملة من الحقائق والوقائع الناطقة في ميادين الواقع:
– فهي حرب مركبة تتشابك فيها وتتداخل الأسلحة النفسية والإعلامية، والاقتصادية والرجعية في أرفع وأشرس مستوياتها..
– وهي أول حرب لا تستهدف أرضاً تحتلها أو نظاماً تزيحه أو جيشاً تقضي عليه، أو حزباً تقصيه عن السلطة، وإنما هي مجموع ذلك كله تستهدف تدمير كل شيء بشراً، وحجراً، ومؤسسات، ومشافي، وجامعات، وإعادة البلد إلى عصور الظلام، والجاهلية الجهلاء.
– ولأول مرة في الحروب، يكون الغزاة المهاجمون عشرات الدول، والمعتدى عليه دولة واحدة متواضعة الحجم والموارد والإمكانات والسكان والمساحة ولا تملك سوى إرادة جماهيرها واختيارها السديد بين الشهادة أو النصر والشهادة أولاً لأنها الطريق إلى النصر..
– ولعل أبرز ما امتازت به الحرب الوطنية، على حرب تشرين، هو أن الغزاة المعتدين لم يريقوا قطرة دم واحدة من جنودهم، كما لم يصرفوا فلساً من خزائنهم، وإنما يستعملون المرتزقة من وحوش الإجرام المستجلبين ليقتلوا، أما الأجر فتتكفله بيوت مال الخليج الرجعي المرتبط بأمريكا الصهيونية!
– وقد كانت هذه الحرب مبالغة في استخدام الإعلام المعولم، وقدرته على النفاذ، وخردقة العقول، والوجدان وتبديل القناعات وتكوين الرأي العام، والسطو عليه لمصلحة أهداف هذه الحرب المدانة.!
– كما أن هناك أنواعاً من الأسلحة لم يسبق لها أن شهدتها ميادين الحروب السابقة من الأسلحة الجرثومية والكيماوية، والصواريخ المجنحة، والطائرات المسيرة الكترونياً والبالونات الحارقة، كما كانت هذه الحرب ميداناً لتجريب أجيال جديدة من الأسلحة غير المعروفة سابقاً في تاريخ الحروب وكل هذا إضافة إلى الأسلحة الروحية التي برع الإرهاب التكفيري الوهابي الرجعي وفي مقدمها – أيهام الناس وخداعهم- بامتلاك الطريق إلى السماء والجنة الموعودة، حيث الحور العين، وأنهار العسل واللبن -والنعيم المقيم-!!.
وقد استطاع أبطال تشرين بالأمس، وعمالقة الحرب الوطنية العظمى اليوم، أن يحققوا الانتصار الذي هيأ الأعراس والبيارق للاحتفال به، خلال الأيام، بل الساعات القادمة، والذي يتوج به أبطال جيشنا وشركاؤهم باقتسام رغيف الدم والنبل والكرامة في محور المقاومة، بالغار الذي لا تذبل زهرته، ولا تخمد جذوته مدى الدهر..
فتحية لروح القائد المؤسس لسورية الحديثة الرئيس الخالد حافظ الأسد بطل حرب تشرين وفارسها وحارسها وحامل رايتها المظفرة.
وتحية لأرواح شهداء تشرين، وشهداء الحرب الوطنية العظمى رمز العزة والكبرياء القومي.
وأنبل التحايا لشعبنا العظيم الصامد بقيادته مفولذة الأعصاب التي قدّمت للعالم دروساً في الجسارة وجدارة الحياة العزيزة ومواجهة التحديات الكبيرة من أجل الكرامة الوطنية والعروبة الحضارية وقيم الأمة الخالدة..