إرهاصات التأسيس الثاني
ربما، ومن دون مبالغة أو تجاوز، يمكن القول: إن الحصيلة التي خلُص إليها اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي في اليومين الماضيين ترقى إلى مستوى التأسيس الثاني، وتندرج في سياق محاولة جريئة ومطلوبة، ظهرت بوادرها سابقاً، لمواءمة “البعث” مع متغيّرات وتحدّيات سياسية وفكرية كبيرة، محلياً وإقليمياً وعالمياً، كنّا شهوداً على اكتمال بعضها سابقاً، فيما لا تزال إرهاصات بعضها الآخر تتوالى بالظهور والإعلان عن نفسها، فـ “كلما اقتربنا من الانتصار يمكن أن يصبح الوضع أصعب، لأن هناك خطة لاستنزاف سورية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً”، كما أوضح الرفيق الأسد خلال الاجتماع المذكور.
وبطبيعة الأمور فإن مواجهة “خطة الاستنزاف” والتحدّيات المقبلة “التي لا تقل خطورة عن الإرهاب”، تستلزم استنهاض قوى المجتمع الحيّة بأكملها، وذلك يتطلّب بالضرورة أن يكون هذا المجتمع واعياً للتحديات والأخطار، وجاهزاً، في الآن ذاته، لمواجهتها بالأساليب المناسبة، ما يتطلّب أيضاً “وجود مؤسسات قوية في الدولة لا يمكن توعية المجتمع دونها” ودون “دراسة المجتمع بعمق، وفهم التحوّلات التي تطرأ عليه”.
وهنا تحديداً يأتي دور الحزب، الذي لا يمكن نكران ما قدّمه عبر تاريخه الطويل، فلا يمكن أيضاً نكران “أوجه” الخلل والقصور في أدائه والتي اعترت مسيرته، عبر هذا التاريخ ذاته، سواء تعلّقت هذه “الأوجه” بالبعد النظري، أو العملي، وفيهما “قول” كثير وكبير على رأي أصحاب الكلام، وإذا كان هذا “القول” مناطاً بالمثقفين والعاملين في الشأن العام إلا أنه مناط، وبالدرجة الأولى، باللجنة المركزية للحزب، “كونها المؤسسة الحزبية المعنية بتحديد الاستراتيجيات المناسبة لعمل الحزب وتحديث العمل الحزبي”.
وبالمشاهدة والتجربة فإنه يمكن اختصار أوجه الخلل في البعد العملي بظاهرة تحوّل الحزب من قيادة المجتمع والسلطة معاً إلى قيادة السلطة فقط لا غير، وهذا ما أضعف، على المدى الطويل، دوره الأساس بين الجماهير، وبالتالي أسلوب مخاطبتها، الأمر الذي صنع هوة واضحة للعيان بين المسؤول الحزبي وبقية أفراد المجتمع، بل بينه وبين الحزبي الآخر أيضاً، وهو خلل أشار الرفيق بشار الأسد الأمين العام للحزب إلى كيفية معالجته عبر “مخاطبة الناس بلغة مفهومة وغير نخبوية، والتنويع في آليات وطرق التواصل مع المحيط”، مشيراً إلى “ضرورة تصدي الحزب للعناوين والنقاشات الدائرة في المجتمع، وأن يكون لديه مساهمة في تعريفها بصورة أوضح وفق منهجية علمية”.
أما في البعد النظري، فـ”البعث”، كما كل الأحزاب المماثلة، يحتاج إلى تطوير نظري يواكب المتغيّرات المحلية والعالمية التي شهدها، ويشهدها، عالم اليوم في المفاهيم والوقائع على حد سواء، وأهمها ثورة الاتصالات الهائلة التي وفّرت للفرد فضاءات مفتوحة للتعبير والاحتجاج والنقد والتعبئة، بعيداً عن جمود الأحزاب والهيئات المنظمة، وتراتبيتها الحديدية، وتعاليمها وتعاميمها “المكتوبة” التي تجاوزها “أحمر” الفضائيات العاجل، و”بوست” وسائل التواصل الاجتماعي، القليل الكلمات، الكثير المفعول.
وهنا من الضرورة بمكان أن ينصبّ التحديث النظري على المنطلقات والمفاهيم والأدبيات الحزبية كاملة لتثويرها وتطويرها ومواءمتها مع العصر، بدءاً من كيفية “تحديث العمل الحزبي”، وصولاً إلى طبيعة “الرابط الأساسي في العلاقة بين القيادة وبين القواعد والكوادر”، وهذا يتضمّن “مفهوم الالتزام الحزبي”، وموضوع التنسيب، وبنية الاجتماع الحزبي، وضرورة استخدام طرق حديثة في “التثقيف الحزبي تتناسب مع وسائل الوقت الحالي بعيداً عن الطرق التقليدية”، وأبعد من ذلك، حل مسألة صلاحية “بعض المنطلقات النظرية”، التي كتبت في ظل “جدار برلين” والحرب الباردة، فما معنى بقاء الحزب بالتعريف “حزباً انقلابياً”، بعد مرور عقود عدة على وجوده في سدة الحكم؟!!، علماً أن “الانقلاب” كلمة “منفرة”، على الأقل، للأجيال الجديدة، وتنتمي في دلالاتها اللغوية إلى تاريخ مرذول آخر لا يريد أحد عودته… إلخ.
نهاية القول: تلك طروحات مجملة، وأفكار متفرّقة تحتاج الإجابة عنها إلى إجراءات عدّة، أولها البدء بمراجعة جادة وعميقة للنظري والعملي في حياة الحزب وفكره، كي يعود إلى جماهيره، فهم حماته وأس وجوده، ودوره الوحيد هو في الدفاع عنهم وعن مطالبهم، وهذا يحتاج إلى مثقفين وكوادر حزبية تمتلك قلق السؤال، وهمّ التأسيس، وداعي التغيير، ويعرفون بالتجربة، والمساءلة الدورية، أن حرير “الجاه والسلطة” لا يمنع من المحاسبة، فالمسؤولية الحزبية مَغرم وليست مَغنماً، وبذلك تتحوّل إرهاصات التأسيس الثاني لوقائع محددة لحزب متجدّد في عالم تكتنفه التحديات المتغيّرة باستمرار.
أحمد حسن