ثقافةصحيفة البعث

“حفلة على الخازوق” والكل مدعو للمشاهدة

 

 

استطاع الفنان والمخرج زيناتي قدسية من خلال احترافيته المسرحية العالية جذب جمهور مسرح الحمراء لعرضه “حفلة على الخازوق” طيلة دقائق العرض مقدما فرجة مسرحية مختلفة هذه المرة عن كل ما قدمه في السنوات السابقة من عروض المونودراما التي برع فيها، مع استمرار التزامه في هذا العرض بالقضايا المصيرية الكبرى للإنسان وفلسفة العلاقات الإنسانية بمستوياتها الأفقية والعمودية عارضا رسالته العميقة بأسلوب سلس قريب من الجمهور على اختلاف شرائحه الفكرية والعمرية، ومعطيا بذات الوقت أبعادا واسعة لنص الكاتب المصري الراحل محفوظ عبد الرحمن، ليكون أكثر عالمية في مدلولاته الكاشفة للفساد المستتر من خلال إدخال عدة أزمنة على شخصيات العرض الأساسية في خروج عن إرهاصات اللحظة الراهنة وما يشوبها من حيثيات آنية معاشة، فظروف النص التي كتب خلالها بعد نكسة حزيران ليست هي المقصودة في عرض قدسية، إنما الحالة هنا تمتد عبر التاريخ إلى زمن بعيد وصولا إلى وقتنا هذا مع التبشير باستمرارها في المستقبل لتجذرها في الحياة السياسية العامة.
إدارة الممثلين جاءت مضبوطة من قبل مايسترو محترف يحسب الأنفاس والخطى وبذات الوقت يترك لكل ممثل ما يضيفه ضمن المساحة الخاصة به، فكان كل ممثل في مكانه بطلا حقيقيا، وإضافة هامة للعرض فحافظوا مجتمعين على إيقاع متصاعد لم يهبط للحظة واحدة، مما أبقى الجمهور على تواصل مستمر مع الأحداث التي جاءت سريعة ومشوقة دون الإغراق في التفاصيل، مما شكل إعدادا معاصرا لنص قديم يعرفه الجميع، وقدرة عالية على الهروب من الملل المتوقع وتحقيق الدهشة عبر مفارقات كوميدية لعبتها باقتدار شخصيات العرض عبر الموقف حينا وعبر الأداء في أحيان أخرى، ورغم استخدام الفصحى في الحوار إلا أنها لم تشكل عائقا أمام الممثلين في تشكيل العبارات الساخرة واستخدام مفردات عامية من الحياة برشاقة معاصرة بعيدة عن التكلف والبلاغة في كثير من المشاهد.
استخدام الديكور المتقشف والحيوي في تقلباته مع الأزياء المناسبة لكل حقبة زمنية والتي صممها “محمد الخليلي” جاءت متوائمة مع الرؤية الإخراجية المعتمدة على الحيوية في أداء الممثل ضمن مساحته الخاصة، مع الاستخدام الوظيفي للإضاءة التي صممها “نصر الله سفر”، ولعل مشهد الصناديق المتراصة فوق بعضها يعتبر من أكثر مشاهد العرض إحكاما وجمالية حيث ظهر فيه تكامل الإخراج مع الديكور والإضاءة والأداء التمثيلي، مما أعطى بمدلولاته المباشرة وغير المباشرة رسالة العرض الحقيقية بتكثيف محكم وانجاز مسرحي عال، كما كان المكياج لـ “منور عقاد” متمما ناجحا لكركترات العرض، وجاءت مشاركة فرقة يائيل للرقص عبر عدة لوحات راقصة تمثل زمن الإنسان البدائي كمتمم حيوي لربط الجمهور بالعرض في مشاهده الأولى وإدخاله في لعبته إلى جانب وظيفتها كجسر عبور زمني بين المحاور الأساسية للعرض دون إقحامها في النصف الثاني من الفرجة لصالح رشاقة الأداء العام والانتقال السلس بين المشاهد وصولا إلى النهاية الصادمة. ويحسب للفنان قدسية قدرته العالية على التجدد وقراءة مزاج الجمهور والاشتغال على تفاصيل تقرب المسرح من الحالة العامة للناس محققا المعادلة الصعبة بين الفرجة المسرحية الشعبية – دون السقوط في المفهوم التجاري الفارغ- والمحافظة على رصانة وعمق الحالة المسرحية فكريا وفنيا، فمعطيات الواقع الحالي تستدعي إعادة التفكير بطريقة تقديم العروض المسرحية لجمهور هذا الوقت بكل تناقضاته وتنوعاته الفكرية والحياتية، من خلال تقديم مسرح جديد يعتمد على النص الرشيق الذي لا يغفل معطيات المعاصرة ويحترم عقول وذائقة الناس مع تقديم المتعة والفائدة بذات الوقت، وهذا ما نجح فيه عرض “حفلة على الخازوق” وربما يؤسس لعروض مسرحية قادمة تنهل من ذات النبع لتبقى صالات المسرح القومي مقصدا للجمهور الباحث عن حيواته فوق خشبة المسرح.
العرض الذي أنتجته وزارة الثقافة – مديرية المسارح والموسيقا- المسرح القومي، جسّد شخصياته الممثلون: محمود خليلي، علي كريم، جمال العلي، صفاء رقماني، مصطفى المصطفى، زهير بقاعي، رائد مشرف، قصي قدسية ونورس أبو علي.
محمد سمير طحان