قراءة في كتاب د. حسن حميد “الذهنية العربية الثوابت والمتغيرات”
علي اليوسف
لطالما كانت الذهنية العربية محط اهتمام الكثير من الباحثين والمفكرين العرب، وجميعها كانت محاولات أصابت في بعضها، وأخطأت في بعضها الآخر، للارتقاء بالفكر والذهنية العربية من خلال مكونها الأساسي “الفرد”، لأنه العامل الوحيد الذي يتأثر ويؤثر بمحيطه الاجتماعي، ما ينعكس بالتالي على مجمل العقلية الفكرية والسلوكية لكامل المجتمع.
في كتابه “الذهنية العربية الثوابت والمتغيرات”، يحاول الكاتب د. حسن حميد تفكيك مفهوم “الذهنية” العربية من خلال البحث عن مكوناتها، ورصد تجلياتها عبر ثلاثة أبعاد هي: معرفة الراهن، والماضي، ومعرفة التجليات الأولى للمستقبل، لأنه بحسب الكاتب، تعد سلوكية الفرد ونمط تفكيره من أصعب القضايا التي يتم الخوض فيها.
ولهذا الغرض، وضع المؤلف عشرة فصول تناول فيها إشكالية الذهنية العربية، ابتداء بالمحددات الأولية لمفهوم الذهنية العربية عبر العوامل المكونة لها، والآراء التي قيلت فيها، ثم تناول في فصل كتابه الثاني مفهوم سوسيولوجيا المجتمع العربي عبر مقارنة بين الذهنية البدوية والحضرية وصفاتها، بعدها انتقل إلى منظومة القيم (أفقياً وعمودياً) التي تشكّل الشخصية سواء التقليدية أو المتجددة، وصفاتها، وأنماط سلوكها، والأدوار التي تؤديها في المجتمع، وفي الفصل الرابع عاد الكاتب للأطوار التاريخية بوصفها سوسيولوجيا من جهة، وبوصفها ثقافة وفكراً من جهة أخرى، لينتقل بعدها في فصول كتابه الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر إلى العلاقات الاجتماعية في المجتمع، وأشكال التحالفات، حيث يشرح بإسهاب في هذه الفصول أدوار الشخصيات التي أثرت بشكل كبير في المجتمع، ابتداء من رجال السياسة، ورجال الدين، ورؤوس الأموال، ورجال العلوم والأدب، وانتهاء بدور المرأة وأهميتها في مجالات التربية وغيرها.
يرى الكاتب أن صعوبة معرفة سوسيولوجيا المجتمع وتحديد هويته وأنماط علاقاته هي أصعب بكثير من معرفة أنماط سلوكية الفرد الاجتماعية والثقافية بعد تداخل الثقافات العالمية التي تماهت فيها أنماط السلوك، ولصعوبة معرفة سوسيولوجيا الأفراد والمجتمع، خرجت للعلن “فكرة التمذهب” عن الآخرين، أي استباق المعرفة الجادة.
ومما لا شك فيه أن الكتب، والدراسات، والعادات، والتقاليد، والرحلات، والحروب أسهمت جميعها في تدوين المعارف الأولى عن سوسيولوجيا الأفراد والمجتمعات، بحيث صار نعت الشخصية العربية بالمغامرة، والجهل، والكذب، وعدم الجلد على العمل، مرآة أولى لمعرفة الشخصية العربية وأنماط تفكيرها، وبالتالي معرفة هوية المجتمع العربي وخصوصياته، أي مقاربة الفرد اجتماعياً بحثاً عن تنميط لشخصيته، وصولاً إلى سوسيولوجيا المجتمع، وهذا ينسحب على نظرة المجتمع نحو المرأة، ووسمها بصفات معينة، وانتظامها في قاعدة بيانية تخصها، وكذلك النظرة الخارجية تجاه المرأة لتحديد محددات شخصيتها وطباعها وسلوكياتها، إذ لها خطورة بادية ومهمة في المجتمع، فهي المصنع الذي يعد فيه الأفراد للحياة المستقبلية، وهي المورثة الأولى للقيم.
لكن هذه الموجبات تنهض الحاجة إلى معرفة سوسيولوجيا المجتمعات، خاصة بعد أن انقسم العالم إلى عالم يملك، وعالم لا يملك، عالم غني، وآخر فقير، عالم يحلّق في أعالي سلم الحضارة، وآخر يقبع في ذيل سلم الحضارة، هذه الانقسامات، بحسب الكاتب، جاءت نتيجة اجتماع سلوكيات الأفراد، وأنماط تفكيرهم، والآليات الثقافية التي عملوا بموجبها، وهنا يركز الكاتب على ما سماها أسئلة كاوية وموجعة مثل: لماذا هم يتقدمون ونحن نتأخر؟ وغيرها من الأسئلة الكثيرة في هذا السياق، ولهذا اجتهد د. حسن حميد في تفكيك مفهوم (الذهنية) العربية بحثاً عن مكوناتها، ورصداً لتجلياتها، كونها أطروحة اجتماعية تتطلب معرفة بالراهن، والماضي، والتجليات الأولى للمستقبل.
إن وقوف الكاتب عند الحقل التاريخي لم يقصد به معرفة الأحداث الماضية وتوصيفها وإعادتها إلى أحيازها المكانية والزمانية والفكرية، وإنما قصد من وراء ذلك وعي الحياة وفق مرآتين: الأولى: الماضي بوصفه تجربة نافذة، لكنها لاتزال تجربة حية، والثانية: هي الحاضر المتحول بوصفه تحدياً لابد من أن يعاش بعيداً عن معطيات الماضي السلبية.
كما يوضح الكاتب في صدر كتابه أن من سبل تقدم المجتمعات العربية العقل، فالعقل هو المحرك الوحيد القادر على محو التخلف والخلاص منه، وإلحاق هذه المجتمعات بركب التقدم والتطور والحضارة، واستطاع أن يتنقل بكل سلاسة في الذهنية العربية من أشكال تمظهرها، وثوابتها ومتغيراتها، وتأثيرات الحقول المعرفية والاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية حتى تكوين المدن والمجتمعات المدنية، وخلص إلى أن أية ذهنية ليست معطى بيئياً صرفاً، أو معطى اجتماعياً صرفاً، وإنما هي منتج المعطيين معاً، ففي هاتين البيئتين تنمو الذهنية وتتجسد، وتصير تعبيراً عن سلوك الفرد، والجماعة، والمجتمع.
ويرى أن الذهنية العربية ليست نتاجاً لعصر زمني محدد، وإنما هي نتاج تراكمي لعبت فيه البيئتان الطبيعية والاجتماعية دوراً أساسياً في تشكيل ماهيته بعدما اكتسبت الكثير من العادات والتقاليد والأعراف والتصورات بسبب الثقافات الوافدة أو الرافدة، كما أن تكرار صفتي الثابت والمتغير كان ضرورياً في تكوين الذهنية، لأن الخوف لا تنفرد به الذهنية العربية وحدها، فهو أمر مشروع في كل المجتمعات، ولكن من الضروري ألا يكون معوقاً لظهور الجديد.
وخلال إبحاره في الذهنية العربية، يرى الكاتب عدداً من الخصائص والصفات التي أفصحت عنها الذهنية العربية، وهي: الماضوية، الأبوية، الاتباعية، الفردية، الجزيرية، الوراثة، الطارئية، وخلص إلى قناعة أن الذهنية العربية ذهنية ذات تكوين هندسي دائري شبيه بدوائر الرمل لا تفضي إلى شيء سوى غايتين: الأولى: التماهي مع الدوائر الأخرى، أي التداخل معها بسبب قوتها، والرضى بالاتباعية لها، فتدور في مدارها وتستجيب لمعطياتها، والثانية: هي ابتلاع الدوائر الأخرى، ليس من أجل شق دروب جديدة، بل من أجل توسيع حجم الدائرة نفسها، وتجسيد الهيمنة.
وبيّن أن ما يبقي الذهنية العربية على هذا النحو هو تقديسها للماضي الذي اكتملت صورته، وتبلورت حضوراً داخل إطار شديد التماسك، وعدم الوثوق بحاضر متقلب تتنازعه الأهواء والمصالح، وتخترقه الطارئية، ومعطيات الفردية، ولوثة التوريث، وحيرة الدوران في دائرة لا تفضي إلى دروب جديدة حتى أوجدت قانوناً يظل الجميع بسطوته، وكل ذلك خلق تناقضاً ثلاثي الأبعاد تجسده الذهنية العربية، وهو المتمثّل في أن ما تقوله الشخصية العربية شيء، وما تفكر به شيء، وما تفعله شيء آخر.
ويخلص الكاتب إلى أن هذه ليست كل الاستخلاصات عن الذهنية العربية، وثوابتها ومتغيراتها، وإنما هي مساهمة لتجاور مساهمات فكرية أخرى من أجل الإجابة عن الأسئلة الهامة: (لماذا تقدموا، ولماذا تأخرنا؟ هل نحن أمة خارج التاريخ؟)، وغيرها من الأسئلة الكثيرة، مؤكداً على دور المرأة لاعتبارين اثنين هما: الأول كون المرأة هي المشكّل الأول للفرد، وهو في نشأته الأولى داخل الأسرة، والثاني كون المرأة تشكّل عنصراً تبادلياً بين جميع العلاقات الاجتماعية، وصاحبة تأثير فاعل فيها أيضاً.