ثقافةصحيفة البعث

 أشياء في الطرح والصورة والفكاهة

رائد خليل

رودان وابنه المفكر
تقول الأسطورة القديمة: “إنّ ثلاثة أشخاص جلسوا قبالة شاطئ البحر، فقال الأول: ما أجمل البحر! أما الثاني فقد أنصت لصوت الموج. أما الثالث فإنه لم ينصت ولم يتكلم. الأول ربما كان شاعراً، والثاني قد يكون موسيقياً، أما الثالث فربما كان صاحب تجربة عميقة في التشكيل”.

وهنا، نتساءل عن تلك الذائقة الحسيّة المتأصلة في اندماج سوريالي واضح مع لحظات التأمل تلك؟

تُخلق الأفكار التي لا تقتصر أبداً على الولوج في صلب الموضوع ومعرفته، وإنّما هي محاولة تضمينية لأهداف تغييرية، فتبقى الفكرة أسيرة للنمطية إلى أن تجد من يترجمها في عملية تناسل الواقع و تحويره.

ويبقى الصراع قائماً ما بين الأفكار التشويهية والبناءة على بساط الذهنيات المتلونة تماشياً مع اللحظة وتداعياتها.

إذن، هي الفكرة، مفردات حسيّة وذائقة إبداعية مفتوحة على أبجدية التنوير في دغدغة العمق البشري بعيداً عن الوضوح المباشر، وعن تقديم الفكرة على طبق من فضة في تنحية واضحة للتأويل الذي يأخذ أجمل أشكال البوح بعيداً عن الإبهار المجاني، فالوضوح في الطرح على حد تعبير “برناردشو” هو جريمة.

أفكار وأفكار، وكلها على قارعة الطريق، ويبدو أنّ هناك محاولة لقتل الطريق وقارعته، لا بل محاولة لخلق فراغ في محيط تركه “رودان”  بحركة رمزية تكوينية متفاعلة مع أبعد نقطة في فضاءات الرؤية.

لكنهم لم يتركوا المفكر الذي ابتدعه قلب النحات قبل يديه، إذ فتحوا شقاً في جبينه باتجاه العنق، وجعلوا الجمجمة معلقة كأنها قبعة غريبة الشكل، لا يربطها بالعنق سوى شعيرات برونزية.

نعم.. حاول اللصوص تقطيع تمثال المفكر وبيعه، وهم لا يدرون أنه شامخ رغم مرور أكثر من مئة عام على ولادته الرمزية.

حاولوا قتل النشوة التي اختطفت “رودان” الذي قال إنه شاهَدَ طينَ الخزف للمرة الأولى، فتخيّل أنه يصعد إلى السماء. فراح يصنع قطعاً منفصلة، أذرع ورؤوساً وأقداماً، ثم يصيغ الشكل كاملاً، فاكتشف وقتئذٍ وحدة الجسد.

صحيح أنّ المثل يقول: كلما ارتفع الإنسان، تكاثفت حوله الغيوم والمحن، وصحيح أنك لا تستطيع أن تمنع طيور الهمّ من التحليق فوق رأسك، ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش فيه.

إذن، لماذا تحاولون قتل “رودانات عصرنا” ونتاجهم؟
(رودان هو نحات فرنسي ابتدع تمثال المفكر ذائع الصيت)

الصورة المقاومة

إذا أردنا الحديث عن الصورة وسحرها، فعلينا أن نعود إلى ما كتبه الدكتور مازن عرفة في كتابه الموسوعي المهم (سحر الكتاب وفتنة الصورة). فقد أصبحت الصور الكونية المتناثرة والمتزاحمة والمتنافرة تحاصر الأفراد في الأمكنة جميعها، من عشرات المحطات الفضائية التلفزيونية والشبكات الحاسوبية. ويمتلك الأفراد هذا الإحساس بالحصار في العالم الجديد الذي خلقته الصورة بكل تفاصيلها.

والأمكنة في العالم كله، هي في الحقيقة مكان واحد متشابه، تمثل صورة الغرب في شكله المؤمرك المعاصر.

وما حاجني أن أكتب عن تأثير الصورة، هو ما تقع فيه المادة الإعلامية أحياناً من حالات تناقض واضحة. فمنها المقولب المؤدلج الذي تخضع الصورة فيه للنمطية السائدة المملة في كثير من الأحايين.

أما الجانب الآخر من التأثير، فيتمثل في الترويج لسلوكيات ترتبط بالمبادئ والعمل الأخلاقي السامي بعيداً عن الاستهلاك المجاني.

طبعاً، هناك الكثير من الرسوم الكاريكاتورية التي أثرت على نحو أو آخر بمجريات الواقع السياسي والاجتماعي، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر أعمال بعض الفنانين، التي تجوب تفاصيل صورهم  مشهدية الواقع وتدخل إلى الذات البشرية في متعة بصرية مدهشة.

وهنا، يمكن الحديث عن سحر الصورة وفتنتها، التي تستعير تفاصيلها من حسّ متأصل في رفض الزيف وأسبابه.

رسوم أقرب ما تكون إلى التحريض، تندرج في إطار العمل المقاوم. والسؤال: ما حاجة هؤلاء الفنانين العالميين إلى الدفاع عن قضايانا، والحديث عن همّ الصراع مع العدوين الصهيوني والأمريكي..؟

هنا، تعيدني الذاكرة إلى تقرير مصور عُرض في إحدى المحطات التلفزيونية عن المناضل البوسني (كامل روستوموفيتش).

ذاك الرجل الثمانيني الذي أعاد صور ذكريات الحروب التي بدأها مع جيش هتلر الألماني في الحرب العالمية الثانية، ومن ثم انضمامه إلى جيش الإنقاذ العربي وقتاله الصهاينة  في يافا وحيفا وجنين في فلسطين المحتلة في عامي 1947 و1948، ثم انتقاله إلى الجنوب اللبناني.

وبعد 30 عاماً عاد “كامل” من البوسنة إلى الجنوب، عاد إليه ليتنشق هواء انتصار المقاومة بعد حرب تموز، وتنقّــل بين معالم الهزيمة الإسرائيلية التي طالما كان يحلم بتحقيقها أيام الشباب.

وهو الذي قال: “إذا مت فأنا مرتاح، لأنه حصل الانتصار الذي ننتظره منذ زمن”. ختام الجولة التي أعادت الروح إلى شخصية كامل البوسني  كانت في روضة بنت جبيل حيث قرأ الفاتحة على روح أربعة من الشهداء البوسنيين ممن قاتلوا إلى جانبه واستشهدوا عند تلال عيترون.

أعتقد أن مثل هذه الصور هي وحدها ستعشش في ذاكرتنا ويقظتنا، وهناك صور مغايرة ستُرجم بحجارة التاريخ.

الكاريكاتور والفكاهة

سأل أستاذ الرياضيات أحد التلاميذ: إذا استدان والدك 7000 ليرة من جاركم، ومن ثم 10000 من عمّك، فكم سيكون مجموع المبلغين عندما يقرر إعادتهما لصاحبيهما..؟

قال التلميذ: لن يعيد شيئاً يا أستاذ..!

ردّ الأستاذ: يا بني، لقد استدان 7000 + 10000 ليرة..!

التلميذ: قلت لك لن يعيد شيئاً يا أستاذ..!

الأستاذ: اجلس صحيح أنك لا تعرف شيئاً في الحساب..!

التلميذ: أنت لا تعرف أبي جيداً يا أستاذ..!

طبعاً النكتة لا تُقال للإضحاك فقط وإنما للتلميح إلى مكبوتات قد لا نستطيع الإفصاح عنها.

وهنا لابدّ من أن نفرّق بين الإضحاك المجاني المبتذل والسخرية الجادة بمعاييرها الأكاديمية الصرفة، وهذا ينطبق على الرسوم الكاريكاتورية التي تُصنّف تحت اسم الكاريكاتور الفكاهي.

فالرسوم الساخرة هي من أكثر المواد الصحفية مرونة، لأنها تغطي كل أوجه النشاط في الحياة المحلية منها، والخارجية على حد سواء، وبالتالي فأي موضوع مهما تنوّعت خلفيته، من الممكن أن يكون مادة وفكرة للوحة كاريكاتورية ساخرة تحاكي واقع الحال في نصوص بصرية حافلة بجماليات التفاصيل المدهشة.

ومهما حاولنا توصيف الكاريكاتور، أخذتنا مفرداته إلى أبعد حالات التأمل في إسقاطات واقعية أحياناً وإلى إشكالية القراءة في أغلب الأحايين.

فبعضهم يعتقد أنّ الكاريكاتور الفكاهي لا يحتاج إلى البحث عن الفكرة ومدلولاتها، وكشف خفايا رموز العمل الكاريكاتوري.

وهنا، لابدّ من التلميح إلى عوامل مهمة يستند إليها الرسم الكاريكاتوري الفكاهي، وأولها العامل الفني، ونقصد به الأدوات التي تجعل الرسم الكاريكاتوري يثير الضحك من المبالغة في صياغة المحتوى، وبالتحديد الشخصيات المراد تناولها في هذه الرسوم، كأن يصور الرسام بعض الشخصيات المعروفة بمبالغة كبيرة ربما تثير حفيظتهم أو العكس.

أما العامل الثاني، فهو الفكرة المراد إيصالها عن طريق الرسائل البصرية، ويعدّ هذا العامل هو الركيزة الأساسية لتسليط الضوء على المساحات غير المرئية ونقطة انطلاق للتلاقح الثقافي والتعرف على بيئات مختلفة مغايرة.

والعامل الثالث هو الدعابة، ويعني خصوصية رسامي الكاريكاتور والكتّاب الساخرين والممثلين الكوميديين.. فنرى السخرية موجودة حتى في الحركات والانفعالات، وهي سمة تضفي الجاذبية على الأشخاص المذكورين.

وإن كانت سوداوية الفكرة ومرارتها في بعض الأحيان تخلو من الفكاهة، إلا أنه لا يمكن لنا أن نتصور الكاريكاتور من دون نقد.