تصحيح سلوكنا الاقتصادي..؟
التحريض الإيجابي الذي ينحو باتجاه توطين وترسيخ الفكر المبدع، كان إحدى المخرجات التي ولدتها الندوة الأسبوعية لمركز الأبحاث واستطلاع الرأي، إثر تناولها لموضوع “التعليم المهني في سورية” بعنوانه العريض وعناوينه التفصيلية.
ولعل اعتقادنا بالأهمية البالغة لهذا الموضوع، لا يخرج عما يشكله بمفرداته، من صياغة وبلورة الأسس والقواعد الأولية للسلوكيات الاجتماعية الاقتصادية، في أهم مرحلة عمرية من حياة الفرد، ونقصد مرحلة التكوين للعقلية الاقتصادية.
فإن نستطيع تكوين سلوكيات اقتصادية مجتمعية للأجيال الحالية والقادمة، تقرب النشء من المفاهيم الإنتاجية والاستثمارية والادخارية، على عكس التقليدي مما درجنا عليه واعتدناه وهو السلوك الاستهلاكي، الذي توسم به دول العالم الثالث ومنها نحن، فهذا يعني قدرتنا على إنهاء مرحلة السلوكيات غير الاقتصادية التي تتصف بها مجتمعاتنا، وخاصة من ناحية العقلانية والترشيد والإدارة، فيما يتعلق بالجانب الاستهلاكي.
قبل الانتقال لما نريد طرحه، من الضروري التطرق لما نشرته إحدى الدراسات الاقتصادية حول التكلفة التي تتكبدها الدول العربية نتيجة لسيادة السلوك الاستهلاكي في مجتمعاتها.
تقول الدراسة: إن العرب ينفقون سنويا 20 مليار دولار على العطلات، و5.4 مليارات دولار على التدخين، و5 مليارات دولار على السحر والشعوذة…إلخ.
تلك الأرقام تعني أن الإنفاق في مجتمعاتنا يتصف ويتجه نحو نوع من الاستهلاك الترفي في حال ارتفاع مستوى الدخل، أي أن النشاط الاستهلاكي لا يتصف بالتنظيم الاقتصادي، وهذه قضية لا تنسجم مع من يعيشون ضمن خط الفقر أو ما دونه، وهم نسبة كبيرة.
وفي سورية وإلى حد كبير كان هذا هو الواقع ما قبل الأزمة، وهو لم يختلف كثيرا بعدها رغم سنوات الأزمة وأثارها، وخاصة لدى شريحة وازنة، فمثلا، لو حسبنا ما ينفقه السوريون على “الكلام” في الموبايل، وفقا للأسعار الحالية والتي لا تتناسب مع مداخيل شريحة كبيرة، لوجدنا أن هناك غيابا للسلوك الادخاري بشكل عام، وما يفاقم هذا الأمر ضعف القطاع المصرفي والوعي المصرفي لدى الأفراد.
لذلك لا بد أن نركز على السلوك الاقتصادي، والذي يعني فيما يعنيه، ذلك النمط أو المسار الذي يتخذه الفرد في ترتيب احتياجاته الآنية والمرحلية والمستقبلية، وفي هذا الشأن، إن ما يهمنا (سواء كان السلوك الاقتصادي للفرد منتظم أم لا، عقلاني أم العكس)، هو كيف نبني مجتمعا ذو سلوك اقتصادي منتظم وإنتاجي.
للوصول لذلك، يجب أن نبدأ بتصحيح مسار هذا السلوك نحو الأفضل، وهذا لا يتم من خلال السياسات والقرارات الاقتصادية المحضة، بل يحتاج إلى اعتماد ما يعرف بالاقتصاد الاجتماعي الذي ينظم هذا السلوك.
وبرأينا أن البداية يجب أن تكون من رياض الأطفال والمدارس وصولاً إلى المعاهد والجامعات، ولا نقصد هنا إدراج مادة الاقتصاد النظري في المراحل الدراسية وحسب، وإنما تضمين تطبيقات عن أهمية السلوك الاقتصادي، لاسيما الاستهلاكي والادخاري والاستثماري، عبر إبراز أهمية هذه السلوكيات في وقت مبكر للطلاب، وبتطبيقات عملية حتى تترسخ مثل هكذا سلوكيات في أذهانهم.
ترجمة ما سبق، يبدأ من وزارة التربية التي يجب عليها القيام بإدراج مادة باسم “الاقتصاد التعليمي أو السلوك الاقتصادي”، تشتمل على مواد تطبيقية تعلم الطالب كيفية الادخار والإنفاق والاستهلاك، أي كيفية التصرف بأمواله منذ الصغر، مثال أن يقوم المعلم بالطلب من كل طالب تخصيص حافظة للنقود، ومن يصل إلى نهاية السنة وقد أدخر مبلغا معينا – يحدد مسبقاً – يكافئ ويمنح جائزة على ادخاره، أو أن يقدم كل طالب قائمة أسبوعيه بكل مشترياته، من ما يمنح له من مصروف من أجل ترشيد استهلاكه، عبر إبعاد السلع غير الضرورية من قائمة استهلاكه أو إنفاقه.
وهكذا يتم التدرج في هذه السلوكيات وبشكل مراحل وحسب العمر ونوع الدراسة والمرحلة التي يمر بها الطالب، وبهذا نضمن أن نصنع جيلا متعلما وذو سلوك اقتصادي متزن قادر على تحديد أولوياته واتجاهاته المستقبلية.
إن تطبيق هكذا نظام ليس بالأمر الصعب، فكل ما يحتاجه الأمر هو بعض المعارف البسيطة عن هذه السلوكيات ومتابعتها خلال سنوات الدراسة، وتحديدا في مرحلتي التعليم الأساسي والمتوسط، أي تعليم الطالب كيفية الاستفادة مما يملك، وتمكنه من تحديد خياراته وحتى توجهاته العلمية والعملية، وبهذا تتشكل ثقافة سلوكية ثورية، بمقدورها تغيير العديد من مفاهيم الخاطئة، وبما يتناسب مع التطورات الاقتصادية والاستثمارية.
قسيم دحدل
Qassim1965@gmail.com