مئة عام على خروج القوات العثمانية من دمشق
د. مازن المغربي
قرن كامل من الزمن انقضى على دخول طلائع القوات الاسترالية إلى دمشق في الأول من شهر تشرين الأول عام 1918، ولايزال هناك الكثير من الالتباس حول الأحداث التي مهدت لهذا الأمر، وكذلك حول دور مختلف اللاعبين الدوليين، ناهيك عن دور بعض الشخصيات التي برزت في فترة تلك المرحلة الحاسمة التي لاتزال تداعياتها مستمرة حتى يومنا هذا.
كما هو عليه الحال اليوم كانت منطقة الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط مسرحاً للصراع بين قوى إقليمية ودولية متنازعة، ولم تكن فكرة تشكيل دولة وفق النمط الحديث واضحة في أذهان معظم أفراد النخبة السياسية المحلية التي تكونت، فعلياً، ضمن إطار الإدارة العثمانية المتخلفة التي اختزلت دور الدولة في قضايا محددة مثل جبي الضرائب والمكوس، أو في المدارس التابعة للبعثات التبشيرية التي زرعت في عقول التلاميذ أفكاراً تتوافق مع المشروع الأوروبي الغربي الخاص بمنطقتنا.
عاش السكان العرب وباقي مكونات المجتمع جنباً إلى جنب، وكذلك فعل أبناء المكونات الدينية في المنطقة الممتدة من البحر المتوسط شرقاً حتى جبال زاغاروس غرباً، ومن العريش جنوباً حتى جبال طوروس شمالاً، في تلك الفترة لم يكن للتسميات الجغرافية الرائجة اليوم محتوى واضح، ويمكن القول إن وضع جبل لبنان يعطي صورة واضحة عن مدى تشابك المعطيات الدولية، فاعتباراً من عام 1861، وتحت ضغط القوى الأوروبية الكبرى، طبق في جبل لبنان نظام “المتصرفية” الذي فصل جبل لبنان من الناحية الإدارية عن باقي بلاد الشام، وأوكل حكمه إلى متصرف من التابعية العثمانية، وكان من شروط تولي هذا المنصب ألا يكون المرشّح تركياً أو لبنانياً، بل يكون مسيحياً عثمانياً تسميه الدولة العثمانية بعد موافقة كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا وايطاليا.
تغيير قواعد اللعبة
عاشت الدولة العثمانية، بعد تمرد والي مصر، الألباني الأصل، محمد علي باشا، صدمة حقيقية أيقظت حكامها من أحلامهم المخملية، كان دخول أراضي الدولة العثمانية السوق الرأسمالية يعني بالضرورة تغبير قواعد اللعبة، وصار على حكومة الباب العالي محاولة تجديد نفسها كي تتمكن من الاستمرار في ظل قناعة القوى الأوروبية الكبرى بضرورة الحفاظ على وحدة أراضي الدولة طالما لم يتم الاتفاق على تقاسم أراضيها.
كانت التنظيمات التي أقرت عام 1839 محاولة لتحديث الدولة من خلال تبني نظام دستوري، ومنح رعايا الدولة حقوقاً متساوية بهدف قطع الطريق على الحركات القومية، ولكن كان ذلك بلا طائل، حيث تجاوزت تداعيات التدخل الأجنبي قدرات الدولة على التكيف مع المتغيرات الدولية، ودشنت الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني عام 1908 مرحلة جديدة صارت فيها مقادير الدولة بين أيدي مجموعة متنافرة من الضباط المتنافسين الذين لم يجمعهم سوى واقع أنهم كانوا ناطقين باللغة التركية، وإصرارهم على حصر المناصب العليا بيد الضباط الأتراك الذين برز منهم أنور وطلعت وجمال الذين أمسكوا فعلياً بالسلطة، الأمر الذي دفع أبناء باقي المكونات من الناطقين باللغة العربية للتكتل وتشكيل جمعيات سرية طالبت بالمساواة، ورفضت التمييز على أساس لغوي، كان عزيز المصري، وهو من أصول شركسية، من أبرز الضباط الناطقين باللغة العربية، وصاحب كفاءة عسكرية أثبتها في ميادين القتال دفاعاً عن الدولة العثمانية، وكان ينظر باحتقار إلى أنور، زميله في الدراسة العسكرية، وقد أضحى وزيراً، اتبع الاتحاديون سياسة خارجية غير مدروسة كانت لها نتائج كارثية تمثّلت في فقدان ليبيا عام 1911، ومن ثم فقدان المقاطعات البلقانية التي نجحت في التخلص من الحكم العثماني، وشكّلت اتحاداً عسكرياً شن حرباً ضد الدولة العثمانية، وأوقع بها سلسلة من الهزائم المتتالية.
وفي عام 1913 قرر الضباط الاتحاديون، ومعظمهم كان في سن الشباب، التخلص من السلطان، وإدارة البلاد بشكل مباشر، وفعلاً نجح الانقلاب، وتمكن الاتحاديون من فرض رأيهم، وأجبروا الصدر الأعظم على الاستقالة، وكلّفوا محمود شوكت باشا بمنصب الصدر الأعظم، وقام بتشكيل وزارة حظي بها اليهود بالعديد من المناصب، في حين لم يكن هناك ممثّل للعرب الذين مثّلوا نصف رعايا الدولة في تلك الفترة.
مطامع فرنسا
انتشرت مشاعر المرارة بين صفوف العرب، ولم تتردد الدول الغربية، وبشكل خاص فرنسا، في التقاط هذه الفرصة الذهبية، وسعت إلى تشكيل نخبة عربية مرتبطة بباريس بما يتوافق مع سياسة فرنسا الطامحة إلى الاستيلاء على سورية، ففي عام 1860 نزلت القوات الفرنسية في بيروت تحت ذريعة وضع حد للمجازر الطائفية، وتمكنت عام 1861 من انتزاع قرار منح جبل لبنان وضعاً خاصاً تحت الحماية الفرنسية، ونجحت فرنسا بفرض هيمنتها على الاقتصاد العثماني، بحيث مثّلت الاستثمارات الفرنسية، عشية الحرب العالمية الأولى، ثلثي الاستثمارات في الدولة العثمانية، واعتمدت باريس في تمهيد الميدان لنشر نفوذها على شبكة المدارس التي أنشأتها، بحيث كانت تلك المدارس تستقبل سنوياً 90 ألف طالب في مختلف المدن العثمانية، ونلاحظ أن معظم قادة ما عرف تحت تسمية “اليقظة العربية” كانوا من خريجي تلك المدارس، أو من خريجي الكليات الأمريكية.
وبالمقابل كانت لدى ألمانيا أطماع في الدولة العثمانية، وتجسد ذلك بزيارة الامبراطور الألماني للدولة العثمانية عام 1898 قادته إلى دمشق وإلى القدس ثم زيارته، لاحقاً، عام 1905، مدينة طنجة في المغرب في إطار مساعي الدبلوماسية الألمانية لتعزيز التحالف بين الدولة العثمانية وبين المغرب بهدف إيجاد تيار إسلامي يمكن توجيهه للضغط على القوى الأوروبية المنافسة، وبشكل خاص بريطانيا وفرنسا اللتين حاذتا على مستعمرات واسعة سكنها الملايين من المسلمين.
كما كانت لدى روسيا القيصرية أطماع في أراضي الدولة العثمانية قادتها إلى خوض سلسلة من الحروب، ومن ضمنها حرب “القرم” التي اندلعت بين شهر تشرين الأول 1853، واستمرت حتى شباط 1863، وكان السبب الرئيسي لاندلاعها سعي روسيا لفرض نفسها حامية للأرثوذوكس في أراضي الدولة، وبشكل خاص في القدس.
ولكن كانت بريطانيا هي اللاعب الرئيس في تقرير مصير الشرق الأوسط ضمن إطار ما عرف باللعبة الكبرى، أو المواجهة بين روسيا، الامبراطورية القارية، وبريطانيا الامبراطورية البحرية للسيطرة على الشرق الأوسط من ساحل البحر الأبيض المتوسط، مروراً ببلاد الشام، وبلاد الرافدين، وبلاد فارس، وأفغانستان، وصولاً إلى الهند درة التاج البريطاني.
الحرب الأوروبية الكبرى
ضمن هذا الجو السياسي العاصف اندلعت الحرب الأوروبية الكبرى عام 1914، وتجابهت فيها دول التفاهم الثلاثي: بريطانيا وفرنسا وروسيا من جهة، ودول الحلف الثلاثي: ألمانيا وامبراطورية المجر- النمسا وايطاليا من جهة أخرى، وقرر زعماء “الاتحاد والترقي” الاصطفاف إلى جانب هذا الحلف، الأمر الذي حسم مصير الدولة العثمانية في عالم ما بعد الحرب.
لم تكن أي من تلك الدول مستعدة لحرب طويلة، وكان كل طرف يرعى أوهاماً حول إمكانية الحرب خلال أشهر، لكن المواجهات الميدانية فرضت على كل العواصم إعادة تقدير حساباتها، كانت بريطانيا قد تمكنت على مدى سنوات طويلة من فرض سيطرتها على سواحل شبه الجزيرة العربية، وأقامت علاقات تحالف مع العائلات النافذة هناك، كما كانت لها علاقات قوية مع معظم زعماء القبائل العربية المتنافسين مثل ابن سعود، وابن الرشيد، وحاكم مكة الحسين بن علي، وكانت معركة “غاليبولي– جناق قلعة” نقطة التحول في تفكير قيادة الجيش البريطاني، حيث تمكنت القوات العثمانية من رد حملة بحرية سعت لاحتلال العاصمة العثمانية شاركت فيها سفن حربية بريطانية وفرنسية، وقوات من استراليا ونيوزيلندا، وانتهت بهزيمة مذلة، حيث تكبد فيها الحلفاء أكثر من خمسة وخمسين ألف قتيل، وكانت الخسائر أفدح في الجانب العثماني، لكن الذي لفت انتباه القيادة البريطانية أن معظم القوات العثمانية التي دافعت بضراوة عن عاصمة الدولة كانت من ضباط وجنود من العرب، الأمر الذي جدد اهتمام بريطانيا بمشروعها القديم القائم على تنصيب خليفة عربي يكون لعبة في يدها بعد تجربتها المرة مع انتفاضة المسلمين في الهند، وثورة المهدي في السودان، وبعد تردد قررت بريطانيا أن يكون حاكم مكة، الحسين بن علي، الخليفة المنتظر، بعدها أعلنت لندن دعمها لمشروع استقلال العرب، وإقامة مملكة عربية دستورية، استثنى المشروع البريطاني كل الشعوب الناطقة بالعربية في أفريقيا، وفي واقع الأمر سعت بريطانيا لدعم استقلال عرب تحت الوصاية البريطانية.
الامبراطورية البريطانية
تميزت تلك الفترة بكثير من التخبط، حيث لم تكن لدى بريطانيا سياسة متناسقة نظراً لأن الامبراطورية البريطانية اعتمدت في سياستها الخارجية على ثلاثة مراكز هي: لندن عاصمة الامبراطورية، وحكومة نائب الملك في الهند، والحاكم العسكري في مصر المارشال هوراتيو هربرت كتشنر الذي استدعي إلى لندن، وتم تكليفه بمنصب وزير الحربية، وترك منصبه شاغراً بانتظار عودته استناداً إلى وهم إمكانية حسم الحرب بسرعة، حتى تم لاحقاً تكليف السير هنري مكماهون بإدارة شؤون مصر بعد أن منح منصب المفوض السامي، وفي واقع الأمر قامت العلاقة بين الدوائر البريطانية والشريف حسين على المناورات والادعاءات والوعود الغامضة، حيث أصرت بريطانيا على ترك مسألة حدود المملكة العربية الموعودة إلى ما بعد الحرب، رأى الكثيرون أن الوعود المبذولة للعرب لم تكن ملزمة لأن بريطانيا اشترطت قيام الألوية العربية المرابطة في بلاد الشام بالتمرد، وهو أمر لم يحدث أبداً، حيث ثابر معظم الضباط العرب على الولاء للدولة، وكان أبرزهم البطل يوسف العظمة.
وتتالى سير المعارك على الأراضي العربية تحت قيادة المارشال ادموند هنري اللنبي الذي لم يحمل أي تقدير لدور قوات العشائر العربية التي كانت، نظرياً، تحت قيادة الأمير فيصل، لكنها لم تشكّل جيشاً حقيقياً، بل مجموعة من المقاتلين الشجعان الذين يجيدون الكر والفر، وتتالت انتصارات القوات البريطانية في المعارك على أرض فلسطين ضمن إطار مخطط بريطاني لتبرير مشاركة ممثّلي الحركة الصهيونية في مؤتمر السلام، وانتهت معارك فلسطين بمعركة “مجيدو” التي وقعت بين 19-21 أيلول بين القوات البريطانية والاسترالية والنيوزيلندية والهندية، وانسحبت بعدها القوات العثمانية شمالاً بعد إخلاء دمشق، تضمن مخطط اللنبي ترك شرف دخول دمشق لقوات الجيش العربي بهدف تجنب استفزاز السكان، ومنح شرعية للأمير فيصل الذي يفترض أن يدير شؤون البلاد في ظل الرعاية البريطانية، لكن قائد قوات الخيالة الاستراليين الذي كلّف بمهمة الالتفاف حول دمشق، وقطع طريق حمص، فضّل اختصار الطريق والمرور عبر المدينة.
التعامل مع الوكلاء
ونتبيّن من هذا الاستعراض المطول أن الدوائر الأوروبية اعتادت التعامل مع وكلاء لها من النخب المحلية ممن لا يمتلكون أي مشروع خاص حول مستقبل البلاد.. واليوم، وبلادنا تواجه هجمة لا تقل في شراستها عن تلك التي استهدفتها قبل مئة عام، يبدو من الواضح اصطدام المخططات العدوانية بوجود قيادة سياسية تمتلك مشروعها الخاص، وقادرة على توظيف تحالفاتها لتحقيق أهدافها، وهذا كان أكثر من كاف لفهم سبب غضب الدوائر المعادية على القيادة السورية.