الاقتصادي.. السياسي.. العسكري في الأمن المائي العربي في القرن الحادي والعشرين
د. رحيم هادي الشمخي
من العراق
بدأ الاهتمام بدراسات الأمن القومي وبالدراسات الاستراتيجية يكشف للفكر السياسي العربي عن جوانب جديدة في الموضوع لم تكن تتبيّن له في المراحل الأولى من الانشغال به، ففي النصف الثاني من الستينيات، حينما بدأت أولى المحاولات الجادة لإرساء تفكير استراتيجي وخلق مؤسساته العلمية، كان المفهوم المهيمن للأمن القومي هو المفهوم العسكري، وكان ينظر إلى الاستراتيجيا بوصفها علم الحرب، وعلم شروط خوض الحرب، لذلك لم تكن هناك من سياسة صائبة لحماية الأمن القومي غير السياسة الدفاعية، ولم يكن رجال الاستراتيجيا –في معظمهم- سوى ضباط وأساتذة أكاديميات عسكرية.
هذا الميل نحو التركيز على العامل العسكري في إدراك قضايا الأمن القومي، وفي رسم سياساته، كان انعكاساً للفهم العام الذي ساد حتى في الغرب نفسه، عقب الحرب العالمية الثانية، وحين كانت العلاقات الدولية محكومة بالتوازنات العسكرية، وحين كان خيار الحرب– على الصعيد التكتيكي والاستراتيجي- لايزال قائماً، وإلى ذلك، فقد كان الخطر الصهيوني لايزال ينظر إليه في الوطن العربي بوصفه خطراً عسكرياً بالدرجة الأولى، وليس أدلّ على هيمنة هذا المفهوم العسكري للأمن القومي من الاندفاع العربي المحموم نحو مركزة الاتفاق على مجال التسليح، وخاصة السعودية ودول الخليج العربي، حتى لو كان ذلك على حساب الحاجة الاقتصادية، أي ما نعبّر عنه الآن بمقولة (الأمن الغذائي).
ويمكن القول: إن المفهوم العسكري استمر في التداول ضمن نطاق المهتمين من العرب بالاستراتيجيا حتى في حقبة السبعينيات، رغم انحساره في الغرب خلال هذه الفترة بعد توقيع اتفاقية هلسنكي الشهيرة، وانطلاق مرحلة الوفاق، ونحن نعزو هذا الاستمرار– أساساً- إلى أن هذه الفترة كانت، في الوطن العربي، فترة طفرة تغطية، وكان من الممكن– في ظلها- إعادة توزيع ريع الاستخراج النفطي على الكثير من الحكومات العربية المحتاجة، الأمر الذي لم تكن تشعر معه السياسة العربية بتبدلات جدية– سيئة- في هيكل الثروة والإنتاج، وأيضاً بالحاجة لإحداث تعديلات في سياسات الأمن القومي، وفي التفكير الاستراتيجي، ولكن بعد انحسار المرحلة النفطية، وما رافقه من إخفاقات متعاقبة للمشاريع التنموية العربية الاشتراكية منها والليبرالية، وما أعقب ذلك كله من ارتفاع في معدلات وأرقام المديونية، سيفتح الفصل الجديد من تصور أبعاد ومستويات أخرى في الأمن القومي، وتدريجياً سيبدأ المفهوم الجديد في شق طريقه إلى التداول عند المهتمين بدراسات الأمن والاستراتيجيا، وإلى إزاحة سلطة المفهوم العسكرية.. إنه مفهوم الأمن الغذائي، هذا الذي نشأ في سياق تصور عام جديد للأمن أعطيت فيه الأولوية للبعد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي على البعد العسكري، كما أعطيت للبعد الداخلي على البعد الخارجي.
إن تصور الأمن القومي من هذا المدخل الاقتصادي، أي من مفهوم الأمن الغذائي، لا يحدث انقلاباً جذرياً في تصور الأمن القومي، ولا ينال من أهمية العامل العسكري فيه، تصوراً وبناء، وإنما هو يعيد بناء هذا التصور بصورة تسمح للاقتصادي بأن يأخذ مكانته الحقيقية، بصفته عاملاً منفرداً وحاسماً في رسم وضع ذلك الأمن واتجاهاته، ومع ذلك علينا الاعتراف، ونحن نتحدث عن هذا التعديل– وهو مهم- في تصور الأمن القومي العربي، بأن التشديد على العامل الاقتصادي- الغذائي بصورة مبالغ بها لم يكن دائماً صحيحاً ولا سليم العواقب، بل قاد أحياناً– وعكس ما هو مفترض به- إلى النيل من الفهم الصحيح للأمن القومي.
قلنا سابقاً: إن الاهتمام بدراسات الأمن القومي قاد إلى اكتشاف جوانب متعددة جديدة به– ماتفتأ تتعاظم- غير الجانب التقليدي، ومن هذه الجوانب ذلك المتصل بالثروة المائية، أو ما أصبح يعبّر عنه اصطلاحاً (الأمن الغذائي العربي)، وهو ميدان أصبح في الآونة الأخيرة مثار اهتمام كثير من الباحثين السياسيين والاقتصاديين المهتمين بالشأن الاستراتيجي، نظراً إلى أن الظرفية السياسية والاقتصادية الحالية في الوطن العربي أمست تفرض هذا الاهتمام، لما أصبحت تشكّله (المسألة المائية) في المنطقة العربية من قضية تنعقد عليها التناقضات والرهانات، ويرتبط بكيفية حلها– إلى حل بعيد- مصير المنطقة برمتها، وشكل مستقبل قواها ودولها.
لا شك في أن ارتباط الأمن المائي بالأمن الغذائي، ولكن أيضاً لا شك– في المقابل- في ارتباطه بالأمن العسكري.. إنه بمقدار ما يطرح نفسه كمشكلة اقتصادية، ويستدعي سياسات اقتصادية حمائية، يطرح نفسه أيضاً كمشكلة عسكرية تفترض بدورها جواباً سياسياً- عسكرياً، وعلى الرغم من غلبة المستوى الاقتصادي في تصور الأمن المائي، وفي رسم سياساته، فإنه من غير المقبول، ولا من الطبيعي، إغفال المستوى العسكري فيه، أو الاستهانة بمكانته.
الأمن المائي كمسألة اقتصادية
يشكّل الأمن المائي– بمعنى من المعاني- قضية اقتصادية، إنه يختصر– هنا- في كيفية ضمان سياسة جدية تحمي الثروة المائية العربية من مخاطر النضوب، وتحمي، استطراداً، الأمن الغذائي للأقطار العربية، وفي حماية الثروة المائية على هذا المستوى خطران فعليان يهددان مستقبلها، ومعه المستقبل الاقتصادي والغذائي العربي، وهما من طبيعة داخلية، ومن طبيعة خارجية، يتمثّل الخطر الداخلي في السياسات العربية الخاصة بالمسألة المائية بكيفية إدارة الموارد المائية، وكيفية استغلالها والحفاظ عليها من التبديد، وخاصة أننا نعيش قرن التحديات في القرن الحادي والعشرين.. إن الحصيلة التي تكشف عنها التجربة على هذا الصعيد تبدو سلبية للغاية، وتنذر بعواقب وخيمة على هذه الثروة، فسوء استثمار هذه المادة الحيوية، سواء في الميدان الزراعي أو في الميدان الصناعي، وسوء تنمية مواردها، هو السمة الأبرز في رصيد السياسات المائية العربية، ففضلاً عن أن طرق التخزين المائي (ومنها بناء السدود) لم يجر استيعابها جيداً، ولم يجر تعميمها على أوسع نطاق، فإن كيفية توزيع الثروة المائية المجزأة، المبني على حيف حقيقي، وعلى تمييز واضح بين الفئات وبين المناطق، كشفت عن اتجاه متنام نحو تبذير القسم الأعظم من الاحتياطي المائي في أنشطة غير منتجة تماماً، وغالباً ما جرى ذلك على حساب زراعات هلكت لنقص المياه، كما يحصل الآن في جفاف نهري دجلة والفرات نتيجة لحجز تركيا المياه عن العراق وسورية.
نعم، لقد تزايدت الحاجة لاستعمال المياه مع تزايد حاجات الإنتاج الزراعي والصناعي نتيجة تزايد النشاط الاجتماعي، ثم نتيجة الانفجار الديمغرافي في الوطن العربي، غير أن هذا كله لا يفسر التناقض المتزايد والخطير في الاحتياطي المائي العربي، ولا تفسره– فقط- ندرة التناقضات في السنين الأخيرة، وإنما تفسره إلى جانب هذا العوامل وعوامل أخرى، واستثمارها، وهي سياسة تكشف عن غياب بعدين أساسيين مافتئا يغيبان في كل شيء، هما العقلانية في التخطيط، والمستقبلية في الاستهلاك.. إن التخطيط، والتجريبية، والاستهلاك الأعمى عناصر سيدة الموقف، وإذا كانت هذه العناصر قد أودت– أو تكاد- بالثروة النفطية، فها هي تهدد بإحداث الشيء نفسه على صعيد الثروة المائية، وما لم يجر– في المستقبل القريب- تدارك الموقف، ورفع درجة الأداء في إدارة الثروة المائية، فإن الكارثة ستحدث، وسندخل عصر المجاعة والموت البطيء.
أما الخطر الخارجي فيتمثّل في تهديد دول الجوار الجغرافي للأمن المائي العربي- فبعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وتقسيم السودان، والعدوان الأطلسي على ليبيا، والفوضى في اليمن، والتآمر الكبير على سورية العربية، بدأت “إسرائيل” تنفذ مشروعها المائي في سحب مياه دجلة والفرات بالاتفاق مع تركيا، والانفصاليين في السودان لسحب كميات كبيرة من مياه النيل، إضافة إلى الاتفاقات القديمة مع مصر في اتفاقات كامب ديفيد، أصبح من السهل لـ “إسرائيل” أن تستحوذ على حياة العرب في مرحلة استطاعت “إسرائيل” تحقيق أطماعها العدوانية في القرن الحادي والعشرين، والأكثر من ذلك استغلال بعض دول الجوار، بسبب مشاركتها إيانا، لبعض الأنهار، أو سيطرتها على مصادر المياه التي نستفيد منها زراعياً، أو أطماعها في ثروتنا المائية التي توجد خارج إطار استغلالها المباشر، وقد ارتفعت– نتيجة هذه الحساسية الناشئة عن مشكلة المياه في المنطقة- درجة الاستعداد لدى الدول المرتبطة بالمشكلة للرد على أية احتمالات يمكن أن يسفر عنها التنازع المائي الصامت، ثم أتت تطورات موضوع (الفرات)، وإقدام تركيا على تحويل مجراه خلال شهر، بهدف التخزين، لتطرح السؤال جدياً حول مستقبل العلاقة بين العرب ودول الجوار الإقليمي في ضوء انتقال ذلك التنازع الصامت إلى حيّز الفعل المباشر.
ليس الخطر الخارجي جديداً، إنه ينحدر منذ الستينيات، منذ إقدام الكيان الصهيوني على مشروعه لتحويل مياه نهر الأردن (الذي انعقدت القمة التي دعا لها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في سياقه) بهدف ري المشروعات الزراعية الإسرائيلية في فلسطين، لا بل ينحدر من الخمسينيات: من إقدام مصر على التفكير في بناء السد العالي للتحكم القبلي في احتمالات النيل– واحتمالات استغلاله- في دول المنبع والمجرى، ومن بدء استشعار مخاطر التهديد الصهيوني للمياه اللبنانية (مياه نهر الليطاني)، وهو ما كشفت عنه مراسلات بن غوريون، موشي شارون الشهيرة التي تضمنت– من جملة ما تضمنت- مشاريع إسرائيلية للسيطرة على الليطاني وتحويل مجراه إلى شمال فلسطين، ومع ذلك فإن التطورات الأخرى مازالت تعصف بحياة المصريين والسودانيين، وإن قوتهم اليومي على كف عفريت، وما يقال عن النيل يقال عن الفرات الذي يشكّل واحداً من أهم مصادر عيش العراقيين والسوريين، فهذا النهر أيضاً تحت سيطرة تركيا (العضو في الحلف الأطلسي)، وتستطيع إن أرادت– كما فعلت قبل مدة- الضغط على البلدين من هذا المستوى، بل هي تستطيع تخريب المشاريع الزراعية، وتقليص منسوب المياه في السدود، كما فعلت مع سورية، وبكلمة، فإنها تمتلك مفتاح الأمن الغذائي لحوالي 50 مليوناً من العرب، أما “إسرائيل” فتبقى المصدر الأكثر تهديداً على هذا الصعيد، لقد سرقت المياه العربية في فلسطين بعد استيطانها، ثم زادت في معدلات استغلالها للمياه العربية الجوفية في الضفة وغزة بعد الاحتلال إلى درجة التهديد بنضوبها، وهددت وتهدد الأردن ولبنان في مياههما (نهر الأردن، نهر الليطاني)، وتحاول البحث عن صورة من صور استغلال مياه النيل، ومدخلها إلى ذلك الضغط على مصر عبر أثيوبيا، أما العنصر الجديد في المشهد، فهو التدفق الكثيف للمهاجرين السوفييت الذي من شأنه أن يزيد من حاجته للمياه، و-إذاً- من الأراضي لتأمين نشاطها الاقتصادي، ولنا أن نتصور مستقبلاً يذهب فيه الكيان العبري إلى تأمين حاجته من الماء، إنه لن يكون إلا على حساب مصيرنا.. إن “إسرائيل” تبحث عن الماء كالثعبان في القيظ، ولن تتردد في أن تلدغ من يعاكسها في ذلك، بينما العالم العربي مازال يغط في النوم، وينتظر المفاجأة لكي يستفيق ليصرخ من جديد.
الأمن المائي كمسألة عسكرية
يتصل التفكير في هذه الناحية من نواحي الأمن المائي العربي بأنه لا يؤمن الأنهار والآبار والاحتياطات الجوفية من الماء، وإنما يؤمن المحيطات والبحار والمضايق، أي الحزام المائي الإقليمي العربي الممتد إلى شمال غرب وشرق الوطن العربي، وفي قلبه، فالبحار والمحيطات تكوّن جزءاً من فضائنا (الجيواستراتيجي) الممتاز، (وتفصلنا) عن (أو تصلنا) بـ (جنوب أوروبا)، وتفصلنا عن القارة الأمريكية، وعن العالم الآسيوي الإيراني والهندي القديم، لكنها– في الوقت نفسه- تشطر الجغرافيا العربية إلى قسمين من قارتين، (البحر الأحمر): قسم أفريقي وقسم آسيوي، وإلى ذلك فالوطن العربي يتحكم أو يشارك التحكم– مع غيره- في السيطرة على الكثير من المضايق الاستراتيجية الهامة: (مضيق هرمز، باب المندب، خليج العقبة، قناة السويس).
هذا الوضع (الجيواستراتيجي) للوطن العربي يجعله مفتوحاً أمام مختلف أنواع الاختراق الخارجي، فعلى مقربة من مياهه الإقليمية تجثم الأساطيل الكبرى كي تؤدي وظيفة حماية الاستراتيجيات الكبرى، وتتحرك تجارة تصدير النفط على أوسع نطاق، لتتحرك معها البحرية الأمريكية في الخليج، وإذا أضفنا إلى ذلك أن الغرب يراقب قناة السويس “بمعية إسرائيل”، وأن هذه تراقب الحركة في البحر الأحمر وفي خليج العقبة عبر سيطرتها على ميناء ايلات المحتلة، وأن الاتحاد السوفييتي سابقاً يراقب باب المندب عبر أثيوبيا (ميناء مصوع العربي)، وعبر جنوب اليمن، وأن إيران تراقب مض يق هرمز، بل تسيطر عليه عملياً، لاتضح جلياً أن الامتياز المائي البحري لا يشكّل، في الحقيقة، وفي ظل غياب استراتيجيا أمنية عربية بحرية، إلا عبئاً على أمنه، وهذا ما ثبت خلال الحرب العراقية- الإيرانية، حيث أثرت وقائعها على النشاط التجاري الطبيعي، الأمر الذي استدعى تدخل الأساطيل الغربية، ما أمعن في تشديد مراقبتها الأمنية للبلاد العربية، وزاد من فرص تهديد أمنها، وليس أدل على حجم الاختراق الأمني البحري من إقدام فرق الموساد على تنفيذ اغتيال القائد الفلسطيني (أبو جهاد) في عملية أشبه ما تكون بفسحة بحرية أمام غياب خطير حتى للحراسة البحرية العادية (دوريات الشاطئ).
ليس الأمن الغذائي– بهذا المعنى العسكري- سوى قدرة الدول العربية على بناء استراتيجية عسكرية موحدة لحماية أمنها البحري من الأخطار التي تحدق به من جراء تواجد الأساطيل الدولية الفخمة، وبسبب ما قد تحمله الحركة التجارية التصديرية عبر البحار والمحيطات من احتمالات عسكرية في حال تعرّضها للخطر، فإن ما حدث في ليبيا أكبر تحد للعرب في السيطرة على أكبر قوة عربية ونفطية.