“عصر الشك”.. تداخل الواقع مع الخيال
“عصر الشك” عمل روائي ممزوج بأجزاء من الخيال، وبمقتطفات من الحقيقة الناجمة عن واقع بعيد عاشه طالب شاب وجد نفسه أمام طريق مسدودة وهو بصدد متابعة دراسته في بلد وقع فريسة لحروب أهلية متكررة، فالخيال كان مدعوماً بالحقيقة في هذه الرواية.
بدأ الكاتب “كيفان مانده” في هذه الرواية الصادرة عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، المشروع الوطني للترجمة- ترجمة د. منيرة خضر وهو مازال في مرحلة الدراسة عام 2004 ومن ثم أهملها لسنوات عدة، لأنه أصبح موظفاً وسافر عدة أسفار مهنية في جنوبي الكونغو وكذلك في البحر وعلى سواحل مدينة بوانت نوار عامي 2008 و2012، وتابع عام 2015 كتابته للرواية بعد نشره لديواني شعر كانا بعنوان “الأرض المقتولة عام 2013، والفتاة البوانتوارية عام 2015” مدفوعاً برغبة جامحة للإبحار بطريقة مستمرة ورسمية في محيط السرد الإبداعي، كان متحمساً ليخرج من عالم التأمل والتحول الذي هو عالم الشعر ويذهب للغوص في عالم الإبداع الذي هو عالم الرواية.
انتظر الكاتب بفارغ الصبر كي يثبت لعموم الناس أنه لم يكن إلا مجرد رسام بسيط وشاعر يتغنى بالحياة حسب اختلافها، وبالطبيعة حسب رونقها وقبحها، وموجه بسيط ما بين الكون وأقراني، وما بين الخالق والعوالم والأكوان، كان متعطشاً إلى الشهرة والاستفاضة في الحديث والتجول في هذا الكون للبحث في زوايا كينونته وخياله وعقله لتلد مخلوقات وشخصيات يعطيها أشكالاً وأدواراً أو حدوداً بحسب ما يرغب.
“أبولينير سنغو باسيها” الكاتب والصحافي الكونغي ومدير منشورات ليمبا هو أول من نشر أعمال كيفان وكانت نصائحه وتوجيهاته هي التي حرضته وأقنعته لبدء العمل حيث قال له: “إن ريشتك الشعرية جميلة جداً وقوية، لكن لا تكتفي فقط بكتابة الشعر إن أردت أن تثبت نفسك ككاتب أصيل، فكر أيضاً في كتابة الرواية، فقراءة الشعر في أيامنا هذه تتناقص شيئاً فشيئاً”.
لكن وكما قال بول أوستر وهو الكاتب الأمريكي المتألق والشهير عقب الأحداث المأساوية للحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة “نحن لا نكتب رواية انتهازية” وهذا قاد الكاتب إلى القول إن الرواية من خلال حبكتها يجب أن تولد وتكبر في عقل الراوي، وهذا ما حدث للكاتب، فالقصة لديه تطورت في عقله على مدار عدة سنوات لذلك توجب عليه أن يبدأ العمل بها مدفوعاً بالتيار السردي للرواية. وفي الأحوال كافة فإن الجسر ما بين الشعر والرواية قوي ومتين ويمكن لأي كاتب مثالي تجاوزه، وليس هناك من خوف أو تردد ما دام الكاتب سيحافظ على جمال القلم سواء كان شاعراً أم روائياً.
والطرفة الكبرى التي حصلت مع الكاتب أثناء تأليف “عصر الشك” والمعاناة المخيفة في إثر ذلك كانت تتمثل بعرقلة الفصول العشرة الأولى من هذا المخطوط، فقد مزقت روح شريرة وحاقدة لأحد زملائه في العمل منذ سنوات تلك الصفحات في أثناء أسفاره المهنية المفرطة وكان واحداً ممن يتنافس معهم مباشرة.
وللفصلين الخامس والسادس خصوصية لدى الكاتب تتجلى في أنه كتبهما على شاطئ المحيط الأطلسي، وهل هناك بوح أكثر من أمواج البحر من خلال صوتها الشاذ والمتناغم وضجتها الملهمة حتى كأنها تقول لك شعرها وكلماتها الرنانة؟ وهل هناك من منظر محزن كما هو عليه منظر غروب الشمس؟
أما الفصلين الأخيرين 12 و13 فهما نتاج سفر لثلاثة أيام إلى “مايوب” بعيداً عن التلوث والضجة الكبيرة للمدينة، والاستفادة من أيام كاملة من دون شمس ولا أي إزعاج صوتي حيث تهدأ الأدمغة وتسترخي، هناك التنعم بصباحات ضبابية ورطبة حيث تطرح الغابة الكبيرة نفسها في الطبيعة كضباب غريب وحيوي، والذهول بليال مقمرة مليئة بالأسرار حيث السماء الإيثارية والرحيمة تغذي عينيك باكتمال القمر والنجوم، كما تخترقك الحيوانات المحيطة والمتوحشة بصرخاتها المرعبة الوحشية.
هل هناك خصوبة أكبر من الخلوة حتى تتأمل الحياة بشكل أفضل؟
مامن أحد يستطيع أن يجيب عن الأسئلة المتعلقة بجغرافيا الروبيستان أو حتى بوجودها نفسه، ولهؤلاء خصص الكاتب مايلي: تشكل الروبيستان الجزء الشامل من تاريخ الإنسانية، فقد ولدت من حقد الأخ على أخيه، ومن الشراهة الحيوانية التي تفتك بالإنسان وتدفعه دائماً ليحصل على كل شيء لنفسه وعلى حساب أقرانه، إنه بلد وجد في أكثر العصور ظلاماً في تاريخ البشرية بلد يوجد في ذكريات جيمي الحزينة والرجال الذين قضوا تحت أغلال البربرية، واحتسوا شراب الاستبداد والإقصاء المر، بلد سيوجد ما دام باطن عالم البشر يرشح بغزارة بالسائل النفيس، وكذلك فإن القبح لن ينفصل عن البشر أصحاب السلطة وحكام العالم.
إذاً، فالخيار متروك للقارئ ليضع الروبيستان في أي مكان يشبهه، إن كان في الشرق أو في آسيا أو في أمريكا أو حتى في أوروبا، وإذا فكر بأن الحياة المعيشة في الرواية تشبه الواقع في زمن ما في أحد البلدان في هذا العالم.
جمان بركات