ليالي مي زيادة في العصفوريّة.. تراجيديا الثقافة النّسويّة أم محنة الثقافة المشرقيّة عموماً؟
لا أدري إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار سرديّة الروائي المعروف “واسيني الأعرج” ياسين الأبيض عن الأديبة الشّهيرة مي زيادة، “ليالي إيزيس كوبيا” طباعة دار الحوار في اللاذقيّة 2018م. المنسوجة تخييليّاً اعتماداً على تحقيق مخطوطة كانت مفقودة وتمّ العثور عليها نتيجة للبحث المضني الذي قام به بالاشتراك مع المترجمة “روز خليل” لتشاد على مداميك وثائقها عمارة الرواية. وثيقة أدبيّة تاريخيّة دامغة على تعسّف المجتمعات المتخلّفة الممارس على الرموز الثقافيّة المتنوّرة عموماً. فالأديبة “الشّهيدة” أراها قد قتلت مرّتين، مرّة بطمس حقائق قصّتها واختفاء “ليالي العصفوريّة، بيتي اللبناني، مذكراتي” بتواطؤ من المستفيدين من مأساتها الذين دبّروا لها مكيدة العصفوريّة لتموت ببطء نفسيّاً وجسديّاً، ومرة بتجاهل المنابر الثقافيّة العربيّة وبالتّحديد في مصر. وقد عاشت أبهى نشاطاتها الثقافية فيها. وكذلك تجاهل حركات التحرّر النسويّة لها، وهي التي ما ادّخرت جهداً كلّ حياتها في الدفاع عن مكانة المرأة وحقوقها في المجتمع. تقول صارخة على لسان الروائي: (أين رجال الأدب في لبنان، أين رجال القانون؟ أين الجمعيّات النسائيّة؟ أين نصيرات المرأة؟ ألم توجد واحدة تدافع عنّي أنا التي قضيت السّنين الطّوال أدافع عن حقّ المرأة. ووقفتُ قلبي على خدمة أبناء جنسي، ورفع مستواهنّ، وردّ الظلم عنهنّ؟). ولا أدري إن كان باستطاعة هذه القراءة الثّقافيّة المتواضعة أن تفيها الجزء اليسير من حقّها، انتصاراً لصرختها الحارقة وهي تصفع وجه التّاريخ: (إنّي أموت، وأتمنّى أن يأتي بعدي من ينصفني) ومدى أن تعتبر قضيّتها الخاصّة، انعكاساً لمأساة المثقف عموماً في المجتمعات العالم ثالثيّة، وإلى أيّ حدّ يمكننا أن نرى فيها عمق ومحنة الثقافة النّسويّة المشرقيّة الواقعة بين فكّي الكماشة “السلطة الذّكوريّة الاجتماعيّة السياسيّة المتخلّفة بمختلف لبوساتها، وانتهازيّة وفصاميّة المثقّف وأنانيّته” في مجتمع تحكمه الذهنيّة النّمطيّة الرّافضة للتّجديد، والتي تحارب على طريقة أعمى البصيرة الرّافض لما يجهله ويخشاه إلى درجة المعاداة، مع أنّ عقدة صلاحه وتطوّره تكمن فيه بالذّات، فكيف إذا شكّل هذا الجديد واحة نسويّة “منتدى مي الياس زيادة الثّقافي” في صحراء وسجون الثقافة البطريركية التاريخيّة الشّاسعة التي لا ترى بنبوغ الأنثى ونشاطها التّحرّري والثقافي أكثر من استفحال ذكوريّ تُمتدَح من خلاله بمقدار مهادناتها لهذه الثّقافة وتقمّصها لأساليبها في التعبير. ثمّ لتحارب بعدها بوحشيّة لو تجرّأت على خدش المسلّمات الذّكوريّة ويقينيّاتها المقدّسة. “مي زيادة” المفتخرة بألقابٍ كثيرة أُغدقَتْ عليها حين كانت في قمّة نشاطها وحضورها الكبير في المشهد الثّقافي المصري، النّاهض من قمقمه بعد حربين عالميّتين طاحنتين. كان أكثر ألقابها فخراً لقب “إيزيس كوبيا” حيث تقول بزهو: استعرتُ من “ماري” البداية والنهاية “مي” تصغير “ماري” عند الإنجليز. و”إيزيس كوبيا” يكاد يكون الترجمة الحرفيّة لـ “مي زيادة”. “إيزيس” أخت الإله وعروسه. “ماري” أم الابن وعروس البحر “كوبيا” في اللاتينيّة تعني “زيادة”. أي الشيء الفائض. هذا التّخفّي زاد من هياجهم)، فالأنثى ليستْ أكثر من ديكور تُعلي الثّقافة الذكوريّة في مرآة زينتها الديمقراطية، في مجتمعات بدائيّة تخاف حدّ الموت من فكرة التعدّديّة، أو تكريس المرأة كعنصر ندّي مكافئ للذكر مكانة وعقلاً. وتدمن عبادة الفرد الذّكر. “مي زيادة” التي ارتاد صالونها في مصر كبارُ مفكّري عصر النّهضة وأدبائه “طه حسين، العقاد، سلامة موسى وأمين الريحاني وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، إسماعيل صبري، أنطون الجميل، لطفي السّيّد،. .وغيرهم كثر؟! وغرق معظمهم في حبّها وعلى رأس القائمة “جبران خليل جبران الذي اعتبرت أنّها فقدت بوفاته ووفاة والديها أهم دعائم حياتها. لم تجد من يؤازرها في محنتها التي أودت بها إلى الموت الفيزيائي، بعد أن أدخلتها الثقافة الذكوريّة والمصالح الضّيّقة في نفق الموت النفسي منذ وقتٍ طويل وسلّمتها إلى “العصفوريّة” ليتنافس الجميع كلّ حسب طريقته على نحرها، سواء عائلتها الممّثلة بابن عمها الطّبيب “جوزيف” الذي عشقته فأهلكتها ثقتها به، عائلتها الطّامعة بأملاكها الكثيرة التي جوّعتها حدّ الموت والإفلاس، أو مثقفو العصر الكبار الذين أكّدوا جنونها بطريقة أو أخرى لدرجة تناسوا فيها حتى السؤال عنها، وهي في قمّة انهيارها النفسي، مضربة عن الطعام لمدّة طويلة، أُجبرتْ خلالها على الأكل الأنبوبي القسري كي لا تموت ولم تجد سوى هذه الوسيلة السلبيّة لتدافع فيها عن نفسها تجاه الظلم القاتل الذي تعرّضتْ له، فقد تعاون أغلب معارفها على قتلها سواء بتأييدهم جنونها أو صمتهم المتواطئ على محنتها التي شكّلت لديها حالة أصعب من الموت ذاته، حتى خرجت من محنتها الكبرى “محنة الثقافة النّسويّة تاريخياً” بمؤازرة من بعض المثقفين والسياسيين الخيّرين الذين دافعوا عنها وساعدوها في استعادة بعض كرامتها المهدورة، كـ “فارس الخوري رئيس المجلس النيابي السوري، وفؤاد حبيش مدير جريدة المكشوف التي آزرتها منذ البداية وحتى خروجها من مستشفى الأمراض العقليّة، لتدافع عن نفسها بقوّة واتّزان شكّلتا صفعة قويّة لكلّ المتواطئين على إخفاء صوتها على مدرّج الجامعة الأمريكيّة في بيروت، ولكن كلّ ذلك لم يخرجها من كآبتها المزمنة التي استفحلتْ بسبب الخذلان الكبير الذي تعرّضت له، ما شكّل لديها رغبة عارمة بالموت، حيث رأتْ فيه السبيل الوحيد لنسيان خرابها النفسي والروحي فأخضعت نفسها لعزلةٍ قسريّة أودت بها إلى القبر الرّحيم، لتدفن في مصر بين قبري والديها، في العاشرة وخمس دقائق من يوم الأحد الواقع في 19 أكتوبر سنة 1941م. عن عمر لا يتجاوز 55 عاماً. وهي التي عانت الأمرّين من موت مسبق مجازيٍّ عاصف في أبنية “العصفوريّة” لمدّة ثلاثمائة ليلة وليلة قضتها في جحيم الرّطوبة لتصاب بالسلّ الرئوي وتموت بصمتٍ مريب، لا يتناسب وحضورها الثّقافي الكبير كوجه نسائي حلم بأن يجد له جزيرة صغيرة ضمن محيط هادر من الثقافة البطريركية المتخلّفة، ولكن هيهات.
تلخّص “مي زيادة” على لسان راويها “واسيني الأعرج” مأساتها بهذه الكلمات: (محنتي ليستْ خاصّة.. ليست ترفاً بائساً.. هي محنة المثقف العربي في أوهامه المرضيّة الذي استقرّ على ازدواجيّة مقيتة. سترافقه إلى قبره بعد أن قبل بها واستكان لها. يصرخ كما المؤذن على ساحل مهجور أو أجراس كنيسة ثقيلة. في الحب، في السياسة، في الاجتماع، وكلّما تعلّق الأمر بموقف حقيقي وبسيط لا يكلّف إلّا صدقه حينما يقف أمام المرايا القلقة، انسحبَ وأصبح غير معنيٍّ بكلّ ما قاله وحكاه).
ويتابع “واسيني الأعرج” سرده الروائي مشيداً بموقف الشّاعر “أمين الريحاني” في كتابه “قصّتي مع مي”: كان من أصدق ما كتب عنها بحبٍّ وحياديّة. لم يذكر مفاخره معها على الرغم من حبّه لها، كما فعل الآخرون، لكنّه خصّصه لمحنتها، أكثر مما خصّصه لنفسه (…) كلّما تقدمنا في البحث، وجدنا دقّة أمين الريحاني فيما قام به بشكلٍ صادق وصريح. زرنا “الفريكا” حيث البيت الذي اشتراه لها، حتى يسهر على راحتها هو وعائلته، قبل زيارتنا ضيعة “شحتول” أرض والدها “إلياس زخور” التي يقطنها الكثير من عائلة “زيادة”.
قصّة “مي زيادة” المأساويّة تلخّص باختصارٍ موجع حدّ الإدماء، محنة الثّقافة العربيّة عموماً والنّسويّة خصوصاً، فهل من يسمع؟!.
أوس أحمد أسعد