أنور الرحبي.. مقامات في الحب والحرب
افتتح المعرض الجديد للفنان الرحبي في صالة ألف نون متوجا حضور هذا الرجل في المشهد التشكيلي السوري كأحد علاماته الفنية والاجتماعية والنقابية لفترة امتدت لربع قرن مضى، ولا زال هذا الحضور قائما وحاضرا بملامحه الثابتة مثل شعره الأبيض ورؤيته في الأدب والحرب والحب والفن الذي تجلى في إنتاج اللوحة، وتوسيع دائرة منتجيها من الفنانين الشباب الذين رعى تجربة بعضهم وتبناها، حتى غدت ملامح لوحاتهم هي ملامح عناصر لوحة أنور الرحبي وتكويناتها.. هذا الحضور الممتد خارج اللوحة والشخصية يجعل من هذه التجربة حالة فريدة تستحق الدراسة والتوثيق لما هي متسعة في جوانبها رابطة بين الكتابة في الفن التشكيلي وإنتاج اللوحة وإدارة مشاغل هذه الدائرة وشخصياتها الأخرى، هذا التأثير الذي أحدثه الفنان خلال مسيرته الطويلة ترك بصمة واضحة لا يمكن تجاوزها بسهولة والإحاطة فيها تعريفا كافيا بمعرض فردي في صالة ألف نون التي تضيق بمحبيه وتتسع برحابة جمالها ولطف الفنان بديع جحجاح الذي قدم للمعرض قائلاً: “في زمن ما، عند الجسر المعلق على الفرات العظيم الذي اصطبغ بألوان امتزجت بضوء الشمس وحولتها الرياح إلى غبار مقدس، تلمح تلك الخطوط السوداء المجنونة المشحونة بالطاقة والعاطفة التي تتحرك تارة بعبثية طفل لا يمل البحث والترحال، وتارة بيد خبيرة عتقتها الأيام فتولد تلك الأنثى المجنحة والملفحة بطبقات من أفكار ملونة غافية، ترقب بصمت وترنو إلى فجر حياة جديد.. ذلك الأسود الشقي الذي يصوغ مقاماته بأشكال لا متناهية تحتضن لحظات لأزمنة عابرة لعشاق الوطن, ستعرف أنك في حضرة الفنان أنور الرحبي”.
الفنان الذي يستذكر طفولته على تراب لفحته الشمس وظللته أشجار الغرب حول الفرات في مدينة دير الزور، تلك المدينة التي شغف أهلها بكل مناخ الحياة والطبيعة والعجاج، حيث يرحلون إلى العاصمة وقلوبهم معلقة في تلك الشرفات والمناديل الملونة على عنق الأم السيدة، عوالم المكان الخصب هي نفسها عوالم اللوحة التي تتسع لكل حكايات البصر والبصيرة التي يزهو بها أنور الرحبي وينتمي، فقد كتب عنه الراحل فاتح المدرس يوما: “إنه الفنان والإنسان حمل معه مدينة دير الزور والحكاية والصحراء ورموز الفرات وشجر الغرب إلى مكانها الجديد دمشق, إنه الفنان الموفق في دلالاته التصويرية في رسم الملامح البشرية، وأعني اهتمامه “بالدانتيل” الملون يزين به رؤوس ووجوه نسائه، فهو الرسام أولا بما يمتلك الخط بقوة العين واللون بأرجوانية فائقة، ناهيك عن الرموز التي أخرجها من أواسط ضيقة ورشها على سطح العمل التصويري وفيها صوت الفرات ونهره وعناده وعفويته، يرمز للحكاية في اتساع أفقها”.
في هذا المعرض يحافظ الرحبي في أعماله على تميز صوته التشكيلي الذي يحمل نكهته الخاصة التي تميل للشعرية الصوفية في اللون والموضوع، تحمل ما في دواخلها من مشاعر وأحاسيس ومقامات الأسرة والحب والحرب والشارع المشغول بهمه اليومي.. إنه عشق الاكتشاف وامتلاك حقيقة المقام.
أكسم طلاع