من يقنعُ القلب!؟
د. نهلة عيسى
أحاول في هذه الأيام خطب ود اللامبالاة, وأعرف أن اللامبالاة عزيزة المنال, رغم أنها في أيامنا المغبرة هذه أشبه بمروحة سقف بائسة يائسة في صيف ساخن طويل, إذ كيف يمكن لأي منا أن يملك ترف أن يكون مسترخياً وغير مبال في وطن يعيش مثل رغيف محروق وسط النار والرماد منذ أكثر من سبع سنين, بل كيف يمكن للواحد منا, ورغم ظاهر الاستقرار الآن, أن يلتقي مع كل ما يحيط به من أشياء اعتاد عليها, سواء كانت بشراً, حجراً, كتباً, جدراناً, لعباً.. الخ, سوى باعتبارها (سلفاً) لقاءات ثلثيها وداعاً, لأننا “كلنا”نعيش يوماً بيوم, ضيوفاً على وطن مزروع بالضباب والوحشة والترقب, والوقوف على عقبي الأعصاب بانتظار ما سيأتي أو غالباً ما لن يأتي!.
وباعتباري دائمة الوقوف على عقبي أعصابي, أحاول شراء ذمة اللامبالاة لأجعل كتفها متكئي لأن قلبي بات علة أشبه بجراب الحاوي, والأصح كرة من الديناميت, يلقي كل يوم في وجهي حقيبة من الأسئلة, فأشتم الأسئلة, وأصرخ في وجهه: من قال لك أن الإجابات (إن كان هناك إجابات) علاج وشفاء؟ فقد تكون الإجابات قمة الشقاء, خذ “كيوبيد” مثالاً, أليس هو من يرشق العشاق بسهم, وليس بوردة, ولذلك ما من حب سعيد, وأيضاً ما من عمر بالمطلق سعيد, هما مثل الورد, ولد ليموت, ولكن من يقنع القلب, من يوقف العلة, عندما يكون الوطن هو الحب!؟
اسأل بجدية مطلقة: من يقنع القلب؟ وهو يرى أن الثقوب التي أحاول جاهدة حفرها في جدار الليل الصلد علني أرى في الوطن نجمة يسدها الرعاع كل صباح بهرائهم, ونواحهم, ومزاعمهم, وظنونهم أنهم عطية الخالق للكون, وأنهم المعيار, وأنهم المثال, وهم لكثرة ما استمعوا فقط لأصواتهم, توهموا أن أصواتهم ناطقة باسم الرب, كوهم صدفة مهملة على الشط, تظن أنها تنطق باسم البحر, وتنسى أو تتناسى أنها مرمية من جوف البحر!؟
أسأل بجدية مطلقة: من يقنع القلب؟ وهو يرى غرباناً وخفافيش من بيننا, يدخلوننا تابوتاً أقصر من قاماتنا, ويقايضون قوتنا, كراماتنا, أصواتنا, بالمناصب والدولار, ويدعون أننا شعب لا يجيد التعلم إلا في التوابيت المعتمة, وتسألونني بعد ذلك: ما علة قلبي!؟ علته يا سادتي أن التابوت صار وطناً, وأني كعادتي أخرمش بأظافري درباً إلى وطن حدوده أكبر بكثير من التابوت وقامتي!؟
أسأل بجدية مطلقة, رغم ادعاء اللامبالاة, من يقنع القلب؟ وهو يعرف أن صوت الرصاص مازال في الأذن, يفترس بعد القلب, الليل والنهار, والقمر والشمس شاشتان تركض فيهما مرئيات السنوات السبع المروعة, والرأس ميدان عزاء ينهض فيه كل يوم من قبور النسيان أحباؤنا الذين رحلوا ليتابعوا سرد حكاياتهم التي لم تكتمل, لأن أحلامهم مازالت طازجة كاملة, ولكن العمر لم يكتمل!.
ينهضون في رأسي كالمطارق من وسط الدمار ورائحة الموت والخراب, ليسألوا عن قمر لم يكن متسخاً, ولم يكن قرصاً من الدم, بل كان مقر إقامة حبيباتهم, وعن ابتسامات لم تكن شاحبة, بل كانت فناراً يضيء ليل الوطن, وعن حكايات وتراتيل جدات, وجرائد ونشرات أخبار الآباء “الطقوسية”, وعن ذاك النكد الجميل في وجوه أمهات يقضين نصف العمر يتذمرن من المطابخ, ويسارعن في دخولها لأجل عيون الأحباء؟
ينهض الراحلون, يتجولون في الذاكرة مثل سكين, ويسألون, وهم الموتى عن حياتنا: أين ما متنا من أجله, أين النور, وما خطب الشوارع والجدران, لماذا هي حزينة؟ ولماذا وجوهكم بائسة لا مبالية, كرغيف الشعير؟ ونخشى، وربما نخجل, أو ربما نخاف عليهم (رغم الموت) من الاكتئاب أن نجيبهم: إننا نموت بالتقسيط, وأن ما ماتوا من أجله يضيعه السفهاء, وأيضاً صمتنا على السفهاء, والصمت موت, والمحتضر لا يملك إجابة عن الحياة أثناء احتضاره, ولذلك ليس من إجابات, ولكن من يقنع القلب, من يوقف العلة!؟.