في العمل الحزبي: ليس دفاعاً عن البراغماتية
رغم أن العقائدية هي ما يميّزه كحزب له أهدافه في الوحدة والحرية والرسالة الخالدة للأمة العربية، إلا أن “البعث” كان دائماً أبعد ما يكون عن الجمود العقائدي والإملائية النظرية، بل وفضّل في مراحل تاريخية عديدة، في سورية تحديداً، أن يترك لتطوّرات الواقع أن تملي عليه بعض مقولاتها كنوع من الاعتراف بتفوّق وقوة وغنى هذا الواقع على النظريات المسبقة والجامدة، ودون أن يعني ذلك إلغاء علاقته الصراعية معه؛ ولعل ذلك ما أكسب البعث المرونة المذهلة – ودون أي مبالغة – في التعاطي مع ظروف متقلّبة ومتغيّرة ومتسارعة دائماً، وأعطى سورية – والبعث معها – القوة على الصمود والتماسك أمام محاولات الاختراق الداخلي المدعومة خارجياً دائماً أيضاً؛ ولعل ذلك ما يفسّر – من جهة أخرى – أن “البعث” لم يكرّس “لاهوتاً نظرياً” محدّداً على امتداد مسيرته التاريخية، وأن الآباء المؤسسين لم يتركوا لأجيال الحزب “إنجيلاً” نظرياً مصنّفاً ومتكاملاً، وإنما مساهمات وأطروحات فكرية سياسية ومجتمعية وأخلاقية لقيت الكثير من التقدير والاحترام، ولكنها سجّلت، في المحصّلة الأخيرة، بأسمائهم كمفكرين وكتّاباً وأصحاب مواقف سياسية، وليس كمنظرين أو قادة إيديولوجيين على أجيال الحزب المتعاقبة أن تأخذ بحرفيتها.
كان من شأن ذلك أن يمر لولا إمساك الحزب بمقاليد السلطة السياسية منذ ثورة آذار 1963، وبروز ما يشبه التيارات والأجنحة التي هدّدت وحدة الحزب التنظيمية، واستقرار الدولة والمجتمع، انطلاقاً من ميول وتوجهات فردية اجتماعية وسياسية متباينة، متضاربة أحياناً، على خلفية الممارسة اليومية للسلطة. واستمر ذلك حتى قيام الحركة التصحيحية بقيادة القائد المؤسس حافظ الأسد، وفيما بعد السيد الرئيس بشار الأسد، حيث تعيّن على الأمين العام للحزب، ولايزال، القيام بمهام رئيس الجمهورية والقائد الجماهيري والمعلّم الأيديولوجي للحزب في آن واحد، وأن يملأ الفراغ الذي خلّفه تراجع الجانب الفلسفي والنظري في أدبيات الحزب، وطغيان اهتمام الكوادر الحزبية بالقضايا الإجرائية الداخلية.
لم يكن ذلك نتيجة احتكار، بل كان عبئاً إضافياً فرضته عوامل عدة، في مقدّمتها الرؤية الاستشرافية للقائد المؤسس وللرئيس بشار الأسد الرفيق الأمين العام للحزب، وهي رؤية متأتية عن أصالة وشجاعة روحية وأخلاقية، وكاريزما وطنية متوارثة أمدّت الحزب – والكثير من المؤسسات – بالقدرة على الثبات والاستمرار، وزوّدت السوريين بتلك الثقة الشخصية التي مكّنتهم من الصمود والتحمّل في مواجهة المصاعب الداخلية والتهديدات الخارجية على امتداد العقود الماضية، ودون أن ينفي ذلك حقيقة الوطنية السورية الراسخة والمتجذّرة، بل هو يتكامل معها.
كما لم يكن ذلك – للأسف – بفعل انخراط الكوادر البعثية في العمل الاجتماعي والميداني، كما هي الدعوات قائمة حالياً، بل نتيجة الاندغام البيروقراطي في صلب التعاطي المباشر، والشخصاني أحياناً، مع مفردات الحكم والسلطة، الأمر الذي خلّف “تراثاً من الممارسة” لايزال البعث يعاني منه على صعيد التطبيق الناجح للإصلاحات الدستورية في ظل إلغاء المادة الثامنة الشهيرة.
مع ذلك، ومع أن “تراث الممارسة”، هذا، وجد من ينفذ من خلاله ليصم أداء الحزب بالترهّل في مراحل مختلفة، إلا أن علينا الاعتراف بأنه ساهم إلى حد بعيد في تصميم مفهوم “الأسرة السورية” الواحدة، وفق التصوّر الذي يجعل من السلوك الجماعي تقليداً ثقافياً موحّداً – على سلبيته أحياناً – ويبني نوعاً من التوافقية التي لم تقص أحداً، ولم تستبعد أية فرضية إلا المصلحة الجماعية المشتركة، والتي هي التطبيق العملي لمفهوم المصلحة الوطنية.
في مراجعة سريعة لما يزيد عن سبعين عاماً من تاريخ الحزب، يمكن للبعض أن يشير إلى البراغماتية التي أظهرها الحزب كأحد أهم العوامل التي مكّنت من الحفاظ على سورية وحمايتها وطناً تعددياً وتنوعياً لجميع السوريين على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم ما تحت الوطنية، وبمنأى عن التعصّب الإيديولوجي والترف الفارغ للمماحكات النظرية في مهد الثقافات والأديان والحضارات الذي حكمت عليه الجغرافيا السياسية بتهديدات وجودية متتابعة ومستمرة، فعلينا ألا ننسى أن سورية الثقافية والسياسية والجغرافية تقع في القلب من الصراعات والصدامات والتصدّعات العالمية، وقدرها الاستراتيجي أن تكون في حالة استنفار دائم للدفاع عن مقوّمات الاستقلال والسيادة، وإلا مواجهة أوخم العواقب.
كما مكّنت هذه البراغماتية من الإبقاء على سورية قبلة لأبناء العرب، ومقصداً للشرفاء في أنحاء العالم الذين يرون فيها واحدة من آخر قلاع التحرّر ومناهضة الامبريالية الغربية بأطماعها ووحشيتها.
ليس دفاعاً عن البراغماتية ولكن جدلية العقائدية والبراغماتية ستبقى مفتوحة، ليس في البعث وحده، بل في سورية كلها، بحياتها السياسية وتاريخها الوطني، طالما أن الحفاظ على الأرض والوطن، بالمساحة الجغرافية المعروفة وبالقيم الثقافية المشتركة، يبقى المهمة الحاضرة والماثلة والأولوية التي لا يمكن أن تعلو عليها أية مهمة أخرى. هو جدل يتجاوز حدود الإخلاص المدرسي الجامد، الفردي أو الفئوي، لكي يصب في إطار الديناميكية الخلّاقة القادرة على تزويدنا، باستمرار، بالفرص والحلول المتاحة، فالوطن أغلى من الحزب، والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبارات.
بسام هاشم